نحن أمام محاولة خطيرة لتفكيك المسألة المذهبية مثل الألغام الأرضية، وحين كتبت عن علاقة إيران الخفية بسوريا من خلال خيط تاريخي بين نظام الحشاشة والشبيحة؛ فظن البعض أنه ضد طائفة دون أخرى، وما يجري في سوريا عام 2012م هو نظام استبدادي شمولي عائلي مافيوي لا علاقة له بالطوائف، ولكنه مستعد أن يركب رقبة كل طائفة، من أجل البقاء على ظهور العباد إلى يوم التناد.
وهو نداء الشيطان القديم لاحتنكن ذريته إلا قليلا.
الثورة السورية هذه الأيام تفرز الناس بين طالب للحقيقة وكذاب أشر. بين من ينقلب على عقبيه إلى الغرائز والطائفة، وبين من ينتبه لحركة التاريخ بكنس أنظمة الباطل إلى ملفات التاريخ، بدون الانتساب إلى طائفة متحنطة في مربعات التاريخ إلى سوريا حرة بلا طوائف.
ما ينتظر سوريا اليوم هو ما يليق بشعبها الكريم بكل طوائفه، أنه يستحق أفضل من عائلة وكارتل مافيا تمسك برقبته بقبضة من حديد بجهاز أمني جهنمي.
قال ويلز المؤرخ البريطاني في كتابه (مختصر تاريخ الإنسانية) إن الأنظمة التي تحكم الشعوب بيد من حديد تحول الشعوب إلى حديد.
هذا هو سر أسطورة الشعب السوري الذي أدمن المظاهرات وقربان الدم اليومي فتقبل منه.
سوريا حوض رائع من التنوع ويجب أن تحافظ على هذا التنوع فهو سر الإثراء إذا دخلت إلى سطوره العقلانية وهو كارثة بالارتداد إلى مستنقع الطائفية التي ستفرز ندبات تاريخية لا تنسى.
أنا متفاءل بالولادة السورية الجديدة ولذا علينا فهم المسألة من عمقها الفلسفي.
لفهم هذه الجدلية يجب استيعاب ثلاث حقائق:
(1)(الحقيقة الأولى) الكون مبني على التعددية سواء الفيزياء أو النبات أو الحيوان والطير والإنسان والأفكار والحضارات؛ فالعناصر تتدرج بزيادة بروتون واحد في كل قفزة مثل السلم الموسيقي.
ولكن مع كل قفزة تتحقق شخصية جديدة لمعدن مستحدث. ولا يعني زيادة بروتون على بروتون أنه أصبح نفس العنصر بكمية أكبر، بل يعني ولادة عنصر جديد. والصوديوم والكلور عنصران مختلفان فالكلور لوحده غاز سام استخدم في خنادق الحرب العالمية الأولى، والصوديوم لوحده شبه معدن فعال، ولكن اجتماع الاثنين يخلق ملح الطعام الذي لا نستغني عنه في كل وجبة طعام، ويشكل جوهرا في تركيب أخلاط الدم، وفي يوم كان الناس يتبادلونه مثل صرر النقود والمعادن النفيسة.
كما أن الزئبق والذهب يقتربان من بعضهما جدا وسحب بروتون واحد من الزئبق تقلبه ذهباً وبالعكس. والبلوتونيوم 239 يعتبر سلاح التفجير النووي ومن ملكه أصبح قوة عظمى ولو كان شعبه مليون نسمة. وهو يوجد باللعب في ذرة اليورانيوم بين إضافة بروتون وسحب نترونين لقلب الذرة التي تحمل 92 بروتوناً و146 نتروناً.
وقانون التعددية هذا يسري على كل الكون ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه. كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ.
(2) الحقيقة الثانية: إن الكون خلق بالأصل على قانون الاختلاف ولذلك خلقهم ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولكنه لم يجعلهم أمة واحدة. وإلا ما معنى أن يجعل لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.
(3) الحقيقة الثالثة: إن هذه الجدلية والاختلاف تمشي في اتجاهين التفاعل أو التدمير. وهي ظاهرة معروفة في الفيزياء. فاجتماع الإلكترون والبوزيترون يدمر الاثنين، واجتماع المادة ومضاد المادة يفني الجانبين ويطلق طاقة خرافية.
وإذا تشقق المجتمع إلى أقليات تعيش كل أقلية في شرنقتها الخاصة تتبادل الكراهية أكثر من الخبرة والكيد أكثر من التنوع الثقافي فإن هذا دخل المجتمع ليل التاريخ ويتبرمج آلياً للحرب الأهلية، كما حصل في البوسنة ورواندا ولبنان، أو دخل مشكلة التطهير العرقي كما حصل في تركيا بإبادة الأرمن عام 1918م أو في أسبانيا بتهجير مليوني مسلم بقرار الترحيل الجماعي للملك فيليب الثاني عام 1608 م.
وقد يحل المجتمع المشكلة الإثنية ولكنه يتورط في مشاكل جديدة كما في الحرب الأهلية مع الأكراد في تركيا بعد أن انتهى من مذابح الأرمن.
وكاد أن يطير رأس أوجلان على حبل عثماني مجدول لولا السوق الأوربية التي أجبرت تركيا على إلغاء حكم الإعدام؛ فسارع برلمانهم يقول إنها مفخرة عثمانية منذ أيام السلاطين، ولكن لم نعلن عنها حتى اليوم. وكما اندلعت الحرب الأهلية في أسبانيا بين فرانكو والشيوعيين فالتهمت في نارها ثلاثة ملايين من الأنام، وقتل الأسباني الأسباني بعد أن لم يبق مسلم من أيام عبد الرحمن الناصر. ذلك أن جدلية الاختلاف الجوهرية لم تحل. وجدلية الاختلاف تنهي التناقض في مرحلة ولكنها لا تحل كل التناقض بل تقفز إلى عتبة جديدة. فهذا قانون وجودي.
ويبدو أن الجغرافيا تلعب دوراً في تشكيل شرانق الانعزال إلى حين دخول المجتمع المرحلة المدنية وانفتاحه على بعض، كما يحدث في الخراجات المتعفنة حينما تنفتح إلى السطح الخارجي. فلا شيء أخطر من انحباس الخراجات في جيوب عميقة معزولة، ولا أصلح (للعقد النفسية) من التنفس للخارج فيتحرر المرء من عقال.
وفي سوريا ولبنان مثلاً تكاثرت الطوائف بسبب جغرافي بحت بوجود الجبال التي تعين على الانعزال، فمع أن مصر صدرت الدروز والعلويين ولكنهم لم يحافظوا على وجودهم إلا في جبال سوريا ولبنان.
وينطبق نفس الشيء على اليزيديين والشيعة؛ فمع أن يزيد بن معاوية نفق قبل ألف سنة ولم يخرج الأمام المختفي من السرداب ولكن الطوائف المتعلقة بهم زاد عددها وامتد نطاقها.
سنة الله في خلقه.
وينطبق هذا على بعض مناطق العالم العربي حيث الصحاري المعزولة، مما شجع على انعزال فرق الخوارج أو نشوء تيارات التشدد.
وهو عكس ما يحصل لأهل السواحل حيث يتم من خلال التجارة تبادل الأفكار مع البضائع.
هكذا انتقلت البوذية على طول طريق الحرير. حيث دمر الطالبان تماثيل بوذا. ومشى حواري المسيح كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي على طول الطرق التي سلكتها الليجيونات الرومانية فانتقلت المسيحية إلى كل الأصقاع حتى القبائل الجرمانية وأيرلندا.
وحيث الجبال عششت الفرق الخائفة من الاضطهاد، كما في العلويين في جبالهم في سوريا ولبنان حتى تركيا. والدروز في جبل العرب. والمارونيون في جبال لبنان. واليزيديون في جبل سنجار.
ولم يحصل هذا في مصر لأن حواف النيل لا تسمح بالعزلة فاختلط الناس. وفي يوم كانت مصر فاطمية لمدة مائتي سنة، ولكن لا يوجد اليوم فاطمي واحد، والأزهر صممه الفاطميون بالأصل مع مجيء جوهر الصقلي لنشر الدعوة الفاطمية، وهو اليوم مركز إشعاع الفقه السني.
وفي الوقت الذي أنتجت مصر الدروز والعلويين فانمحى رسمهم هناك انتقلوا إلى سوريا فوجدوا الملاذ في جبال معزولة حتى حين.
ونفس الشيء حصل لأتباع زرادشت في إيران والبهائيون.
سنة الله في خلقه.
لقد صدقت أوكرانيا قبل فترة على قانون يحظر الجماعات الدينية التي ينقص عددها عن عشرين. ولكن المسيحية بدأت برجل واثني عشر حواري وخائن.
والأديان والأحزاب والجماعات تبدأ من رجل واحد كما حصل مع حسن البنا في الإخوان المسلمين الذين يلتهمون مصر هذه الأيام، وأنطوان سعادة مع الحزب القومي، وميشيل عفلق مع حزب البعث، وأكرم الحوراني مع الحزب الاشتراكي، ولينين مع الحزب الشيوعي.
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه.
تبدأ الدعوات في العادة عملها بدون رخصة مزاولة مهنة. فتُحارب وتنمو حتى تتغلب سنة الله في خلقه.
لقد امتصت إيران الإسلام بطريقتها الخاصة حيث المعارضة فأنبتت المذهب الشيعي، والموضوع لا علاقة له بالتفكير والاختيار، أكثر من الملابسات الجغرافية والتنوع الحضاري.
والإسلام في إيران هو تمثل خاص لمادة الخام الإسلامية. وإسلام التتر غير إسلام أهل البوسنة. وهو مبدأ هام أن نفهم أن كل تنوع ثقافي يمتص الفكر بطريقته الخاصة، ويلونه بلونه المتميز.
وفكرة تنوع النماذج أو النسخ الإسلامية هامة كما صرح بذلك شيخ الأزهر يوما في مقابلة لمجلة در شبيجل الألمانية، وبذلك اختلف الإسلام التركي عن الإيراني، والماليزي عن العربي. وأردوجان ومن قبل نجم الدين أربكان في تركيا حل صراعه مع النظام العلماني ليس حسما بالسيف بل بالصبر على الأذى وانتظار نضوج الثمر, في الوقت الذي قطع الجزائريون الرؤوس بالفؤوس والأنصال، وتابعهم الطائفيون على نفس المنوال من العراق ومن الطرفين.
وانفصل التشيك والسلوفاك بدون قطرة دم واحدة، وكلفت البوسنة تقطيع الأوصال، قبل أن تلحمهم الوحدة الأوربية التي ودعت الطائفية منذ أيام حرب الثلاثين سنة.
وهكذا فلكل أمة لها نكهتها الخاصة في التصدي للمشاكل.
ولكن العصر يتغير واحتكاك الثقافات يزيد، وفي أوربا توجد أثنيات لانهاية لها. ولكن المواطن يعطي ولاءه اليوم إلى ما هو أكبر من الدولة القومية. وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا وليس لتتقاتلوا.
وفي كندا يرحب بالمهاجر ويقال له نحن نرحب بك حسب انتماءك الاثني ونريد منك أن تغني تجربة المجتمع الكندي. ومن يمشي في شوارع مدينة مونتريال في كندا يلاحظ تباين الألوان والمطاعم والمذاقات لأقوام يرطنون بعشرات اللغات ومئات اللهجات. وتسعى كندا للمحافظة على تراث الهنود الأصليين في أكثر من مناسبة وتشريع.
وكما يقول المؤرخ توينبي أن أقوى تجمعات الأرض كانت أمريكا الشمالية بسبب هذا التمازج الاثني والولاء للمجتمع الكبير وأن قيمة الإنسان من عمله وليس أصله.
وأما في الشرق المنكود فما زالت تعيش أيام تيمورلنك وكل يحدق من حوله بنظارة لونية مختلفة هل هو شيعي تشع من عينيه الخبث؟ أو سني متشدد سلفي ظلامي كما في تعبير البعض؟ أو أموي شارك في قتل آل البيت، في الوقت الذي لم يبق على ظهرها أمويا ولا إماما شيعيا؟!
وطالما عششت فينا هذه الخراجات؛ فلنرتقب خسفا أو مسخا أو ريحا صرصراً سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟
فهذا جوابي على من اشتد في عدائي وظن أنني أغني لسلفي أو خلفي أو شيعي أو علوي وإسماعيلي؛ فكلنا متخلفون عرايا نسبح في عين حمئة أو لم يجعل الله لنا من الشمس سترا، تلك التي رآها ذو القرنين يوما ووجد عندها قوما لا يكادون يفقهون قولا.