quot;أعرف أنهم راحلون..أتساءل فقط عن ثمن رحيلهم و عن الزمن اللازم لإصلاح ما يفسدونquot; (الكاتبة التونسية ألفة يوسف)

عندما شهدت دول أوربا الشرقية و أمريكا اللاتينية ثورات شعبية خلال التسعينيات من القرن الماضي، أطاحت بالأنظمة الديكتاتورية و أقامت بديلا لها أنظمة ديمقراطية، اختارت تسليم مقاليد الأمور لنخب تقدمية ذات مشاريع تحررية عقلانية و مستقبلية، فيما قررت الشعوب العربية التي تحررت بفضل ثورات الربيع العربي و رفع ثوارها إبان الثورة شعارات الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية تسليم أذقانها لنخب رجعية ذات مشاريع دغمائية ماضوية.
و حتى لا تمنح العبارات مفاهيم مغلوطة، فإنني لا أتهم في مقامي هذا الدين الإسلامي الذي كان باستمرار الضحية الأهم لحكم الإسلاميين، إنما وددت الإشارة إلى أن مصادر الرجعية كانت دائما متعددة، و أنها يمكن أن تكون دينية كما يمكن أن تكون علمانية، و لا شك أن ثورات أوربا الشرقية و أمريكا اللاتينية الديمقراطية، قد واجهت في حينها رجعيات علمانية، تماما كما كان بمقدور هذه الحركات الإسلامية أن لا تكون رجعية و ماضوية، لو كانت تتويجا و انتصارا لأفكار عشرات المفكرين المسلمين المستنيرين الذين طالما ناضلوا من أجل إسلام تقدمي إنساني عصري، و دفع بعضهم حياته ثمنا لأطروحاته التجديدية.
هنا أسجل ndash; و يا لشديد الأسف- أن الثورات العربية، و خصوصا الثورتين التونسية و المصرية، قد سارت في الاتجاه المعاكس الذي سيفرض على شعوبها سنوات أخرى من التخبط و الضياع و الفوضى و التيه خارج سرب التاريخ البشري، فهي لم تسلم الحكم لنخب قادرة على التوفيق بين القطع مع أخطاء الماضي و المحافظة على إنجازاته و مراكمتها مستقبلا، كما بدا أن في تاريخها مرحلة استبدادية أو ما شابهها لم تقطع و يجب أن تقطع لتفتح آفاقا لما يجب أن ينير الدرب بعدها.
كافة المؤشرات و الأمارات و التقديرات و التحليلات التي يمكن أن يتوصل إليها عقل مستنير، تؤكد أن مشروع الإسلاميين الحاليين في مصر و تونس لا يمكن أن يكون مشروعا تقدميا ديمقراطيا حضاريا يحقق أهداف الثورات و يتيح لشعوبها الالتحاق بركب العصر و الإنسانية، و أنه في عمقه مشروع quot;استبداديquot; تضطره الظروف الراهنة للتجمل و التواري و تقديم تنازلات تكتيكية لبقية القوى المتوجسة و المتشككة، غير أن هذه العلامات لن تكون ظاهرة أو كافية لإقناع أغلبية المواطنين، و أن على هؤلاء البؤساء و الأشقياء و المطحونين بالجهل والمرض و الفقر أن يعيشوا حلقة نهائية من مسلسل الاستبداد الشمولي البغيض.
لقد عاينت الشعوب العربية من قبل نماذج من حكم الإسلاميين في عديد البلاد العربية و المسلمة، إلا أن هذه النماذج لم تكن كافية فيما يبدو لإقناع الشعوب بحقيقة المشروع الحركي الإسلامي، بما عناه من استغلال للدين و توظيف له لتحقيق أغراض دنيوية و نشر للتدين المنافق و ضرب للحريات و جلب للحروب الأهلية و الإقليمية و فتح لأبواب الفتن و الدمار و التخلف و العلاقات المتوترة مع دول الجوار القريب و البعيد، و ليس أقنع لغالبية التونسيين و المصريين و سواهم من الشعوب المعنية بالحالة اليوم، من تجريب هذه النماذج و مكابدة همومها و مصائبها و آثار فسادها.
و لقد أثبتت أشهر قليلة من حكم الإسلاميين، للتونسيين أن القصة التي طالما شنف المشائخ بها آذانهم لا أصل لها في الواقع، و أن تراجع خدمات الماء و الكهرباء في سوابق لم تعرف البلاد لها مثيلا منذ استقلالها و غرق البلاد في القمامة حتى أذنيها و تبين زيف وعود التشغيل و التنمية و و الشفافية و النزاهة و نظافة اليد الواحدة تلو الأخرى، جميعها حجج تسطع و تلمع في أفق العقل التونسي مؤكدة نهاية أسطورة الحكم الإسلامي الفاضل.
يجب أن يحكم الإسلاميون، لأنهم بعد حكمهم سيظهرون على حقيقتهم و سيتعرون و ستبدو سوءاتهم و تتكسر على صخرة الواقع كافة quot;خرافاتهمquot; و quot;ادعاءاتهمquot;، و سيستنتج عامة العرب و المسلمين أنهم بشر و ليسوا ملائكة، و أنهم لا يمثلون الدين الحق إنما أنفسهم و شهواتهم و مصالحهم الحزبية و الطائفية الضيقة، و أن تأويلاتهم للآيات و تفسيراتهم و أطروحاتهم باطلة و ضالة، و أنهم أكثر من يسئ للدين و يفشل في معالجة أمور الدنيا، و أنهم لن يعجزوا عن مواجهة التحديات المطروحة فحسب، بل سيضيعون على أمة زمنا ثمينا و سيلحقون الخراب بعديد القطاعات، و أن من سيأتي بعدهم سيضطر إلى بذل الكثير من التضحيات لتدارك أخطائهم و ثغراتهم و اعوجاجاتهم.
و ليس من وسيلة لبيان تهافت نظريات الإسلاميين إلا تطبيقهم لها..و لله الأمر من قبل و من بعد.
* كاتب و ناشط سياسي تونسي