الأقرب، هو أن الإنسان العربي الذي خرج وضحّى بنفسه في سبيل الثورة، لم يكن هادفاً لتغيير سلطة فقط، وإنما لتغيير حياة.
عادة ما يختزل مفهوم الثورة بأنه ثورة على السلطة السياسية، وفي هذا تحجيم واسع لهذا المفهوم الذي يكاد يكون ظاهرة تتداخل مع كل مسارات الفنون والعلوم. فأي مسار اجتماعي أو إنساني، علمي أوفني يعتمد على التراكم، وفي لحظة مـا تصبح الهيكلية والإطار الذي يشكّل هذا المسار قديمة وغير قادرة على ملاحقة التمرحل والتراكم، فتنتج بذلك أزمة واختناق يتم حلّه عن طريق quot;ثورةquot; تأتي في الطريق. هذا هو المعنى الفلسفي للثورة، أي quot;التغيير الجذري في شأن من الشؤونquot;. وحين لا تنجح الثورة، وتبقى الهيكلية القديمة كما هي، يكون المسار مهدداً بالتكلس والخفوت والعطالة وعدم التجدد.
كل الأشياء في حاجة دائمة إلى التغير والتجديد، لكن النخب المستقرّة وقيادات أي مسار عادةً ما تعارض فكرة التغيير، فهم يفيدون من الوضع السابق (ذات الوضع الذي أوصلهم إلى ما هم فيه)، ويتحولون بدورهم إلى حرس قديم يحافظ على الوضع القائم كما هو، حتى لو شاخ المسار وترهل وأصبح ساقطا لا قيمة له.
والعلم يتقدم بتجاوز نماذجه السابقة. هكذا حلّل توماس كون تمرحل العلم ومسيرته في كتابه quot;بنية الثورات العلميةquot;. فالعلم مبني على التراكم، لكنه تراكم لا ينساب تلقائيا بلا مشاكل، بل يحتاج إلى تحقيق قفزات بين حين وآخر، وهذه هي الثورات أو الطفرات التي تحدث في مسارها. ففي العادة، يكون هناك سيطرة في داخل المنهج العلمي من قبل نظريات معروفة تم التسليم بقبولها، والعمل بها. وتعتبر quot;البارادايمquot;، أي الإطار أو النموذج الاسترشادي، الذي يفكر العلماء من خلاله. ولكن في لحظة ما، يصبح هذا البارادايم قديماً وعاجزاً عن مواكبة وملاحقة التراكم والتمرحل الذي حصل، فتنشأ أزمة، وتكون هناك محاولة للتحايل عليها، لكن في النهاية وبمواصلة الجهد ومحاولات الإجابة يتم الانتقال إلى إحلال بارادايم جديد مكان السابق. وهذه هي الثورة العلمية التي يرى كون أنها ليست ثورية تضاف من الخارج، بل تنبثق من داخل طبيعة هذه العلوم نفسها.
يرى كون كذلك أن التطور السياسي مثل العلمي، فالثورات السياسية تبدأ مع تصاعد الإحساس quot;بأن المؤسسات القديمة لم تعد تفي على نحو ملائم بحل المشكلات التي تفرضها بيئة كانت تلك المؤسسات طرفاً في خلقها. وبنفس الطريقة إلى حد كبير تستهل الثورات العلمية بتزايد الإحساس بأن أحد النماذج الإرشادية القائمة (البارادايم) قد كفّ عن أداء دوره بصورة كافية...quot;(بنية الثورات العلمية، 132). وبذلك تصبح الثورات لدى كون ظواهر طبيعية، يرى أنها سبيل التقدم داخل مسارها.
وفي أي مسار قد نجد أمراً مشابهاً. نجد ثورة وروّاداً قادوا زمامها، وحقبة زمنية عبّرت عنها. في الفن والتربية على سبيل المثال لا الحصر، نجد بيكاسو الأنموذج الفنّي الثوري، الذي ارتبط اسمه بالتحدي والتغيير والجرأة، وكان اسماً شهيراً حتى عند أولئك الذين لم يعرفوا أعماله!. لم يتوقف بيكاسو عن الابتكار والدهشة والتساؤل، ولم يعرف عنه أسلوب واحد، لكن أعماله اخترقت وتسيّدت في التصوير والرسم والنحت والكولاج، وساهم في تحديث الفن واخراجه من أطره التقليدية.. خروج من لا يعود!.
وفي التربية كان هناك اسم باولو فريري، فيلسوف التربية البرازيلي الذي جرب بنفسه الاضطهاد والفقر والحرمان حين عاش في النصف الأول من القرن العشرين في quot;رسيفهquot; التي تعتبر من أفقر مناطق البرازيل. رأى فريري أن التعليم بأطره وأشكاله التقليدية لم يكن سوى أداة تستخدم لإبقاء المضطهدين والطبقات الدنيا في ذات أسرها وخنوعها وتبعيتها، للمستبد أو المستغل أو المستعمر. فقدّم فريري نظرته أو نظراته في التربية والتعليم كانقلاب على كل ذلك. فالعلم لديه أداة انعتاق وتحرر، تولد الجرأة على النقد والتحدي، كما يستطيع الأميين والمزارعين والمعدمين والشعوب الفقيرة والمستعبدة أن يخرجوا عبرها من صمتهم واستسلامهم. هكذا علّم فريري الأميين، وضحّى ودفع أثماناً من أجلهم، كما فعّل الحوار كأداة تعليم حيوية وناقدة، وحطّم الأسلوب quot;البنكيquot; التلقيني في التعليم، وتحدّى الأسلوب التقليدي الذي يهيمن فيه المعلم ويحتكر الحقيقة!. وكانت كتبه كـ quot;تربية المضطهدينquot; و quot;تربية الحريةquot; تطرح آفاقاً ورؤى جديدة وثورية في التعليم، مع أن طلاب ومثقفي بعض الدول النامية اضطروا لقراءتها وتداولها في السر!.
وحال الترهل والكساد والعطالة، هي خير من يدعو إلى التجدد والتبدّل والتغيير، والثورة على الحال السابق. إن مسارات العلوم والفنون والكيانات المختلفة، كلها ستحتاج في لحظة ما إلى مواطن تجدد ونقاط ثورة، كي تستمر طريّة تتنفس الحياة.
وابن خلدون حين رأى حتمية الهرم في الدول، وكيف أنها تمر بمراحل تفضي بها إلى التلاشي والاضمحلال في جميع أحوالها. كان الحل وسبيل استمرار الحياة، انقلاباً جذرياً على هذا الوضع، يبدأ به بداية جديدة وصفها بقوله quot;وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدّل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالمٌ محدثquot;. ويعلّق الجابري على كلامه بأن الثورة هي سبيل ذلك التبدل الذي أراده ابن خلدون، فيقول quot;حالة واحدة يمكن أن تتجاوز الهرم، هي تلك التي نسميها اليوم بالـ rsquo;الثورةlsquo; التي تقوم حين يصبح كل شيء في الدولة لا يستطيع مواصلة السير، وذلك حين تتبدل أحوال البلد جُملةquot; (نقد الحاجة إلى الإصلاح،222).
خلاصة القول التي نريدها هنا، هي أن الثورة تخدم المسار الذي تحدث فيه. إنها تحرره وتجدّده وتنفخ الروح فيه. والتجديد قد يعني إحلال طرق مكان طرق، وعناصر مكان أخرى، لكنه في النهاية لا يعني نسف أو إلغاء المسارات والكيانات كما يصور البعض، ممّن يريدون المحافظة وحراسة الأوضاع السابقة لتبقى استفادتهم منها!. بل هي على العكس، تطوّر الكيانات، وتطور هويتها. لقد درس كرين برنتن أربع ثورات كبرى في كتابه quot;تشريح الثورةquot;، وكتب يقول quot;غير أن من المحتم أن أيّاً من الثورات الأربع لم تنته بموت الحضارة والثقافة... وفي كل المجتمعات الأربعة أعقبت فترة الأزمة النقاهة والعودة إلى معظم السبل الأبسط والأكثر أساسيةquot;. إذن تعود الأمور لأن تصبح أكثر سلاسة وطبيعية، فعلى سبيل المثال يذكر أنه بعد الثورات quot;تلاشت الرغبة الدينية الشديدة في الوصول إلى الكمال، والحملة من أجل جمهورية الفضيلة، ماعدا بين أقلية لم يعد ممكناً أن تقع أعمالها مباشرة في السياسةquot;(تشريح الثورة،321).
الثورة إذن هي الأمل الذي يبقى حين ينادي quot;لسان الكون في العالم بالخمول والانقباضquot;.

[email protected]