لا تمرّ ذكرى يوم القدس العالمي لهذا العام، كما هو معتاد، في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، فالقضية الفلسطينية تشهد أشرس محاولات تصفيتها وإلغائها من ضمير ووجدان أهلها ومناصريها من العرب والمسلمين وشرفاء العالم.
المخططات والضغوط الغربية لا تزال تتناسل بغية إيجاد quot;حلّquot; لواحدة من أقدم الصراعات التاريخية الحديثة وأعقدها على الإطلاق، بالتساوق مع المحاولات الغربية، والأمريكية بالذات، لتأمين وضع ربيبتها quot;إسرائيلquot; وضمان أمنها وسلامتها ومستقبلها، بل وإجبار جيرانها من الدول العربية على التطبيع المجاني معها، رغم تعنتها في تنفيذ أبسط المطالب الفلسطينية (الاستيطان)، فيما تغذّ quot;إسرائيلquot; خطاها لتهويد مدينة القدس والسيطرة على ما تبقى في أيدي أهلها المقدسيين العرب من أراض وممتلكات، وتحويلها إلى منتجعات ومنتزهات وحدائق، بشتى الطرق والذرائع الملتوية.
يوم القدس العالمي الذي دعا إليه الإمام الراحل (الخامنئي) لتذكير العرب والمسلمين وشرفاء العالم بأهمية القدس كعاصمة للسماء على الأرض، ومهوى للديانات والرسل والأنبياء عبر التاريخ، اختار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك لتعزيز الجانب الروحي والديني في المطالبة بحق الفلسطينيين والعرب ومسلمي العالم ومسيحييه بأرض لم تخرج من أيديهم إلا لتعود إليها في كل مرة، رغم ويلات الاحتلال والاغتصاب، لتكون القدس أكثر مدينة تحتل عبر التاريخ.
ولكن.. ما الذي تبقى من هذه الذكرى الهامة بعد عشرات السنين على إعلانها؟
ما من شك أن الانقسام المذهبي الداخلي بين المسلمين، سنة وشيعة، على خلفية المواقف السياسية التقليدية من بعض الملفات، مضافاً إليها الأزمة الخطيرة في سوريا، التي تعد لبّ بلاد الشام وإحدى البلاد التي تهوي إليها أفئدة العرب والعالم بأسره، قد جعل من ذكرى يوم القدس لنصرة أهلها من المظلومين محط شك أو تشكك لجهة الدافع والغاية من الدعوة لنصرة المدينة المقدسة وأهلها المقدسيين ومسجدها الأقصى وكنائسها التاريخية، فيما يظلم أهل سورية، الأكثر التصاقاً بأخوتهم الفلسطينيين عبر التاريخ، والذين خرجت كل جيوش تحرير المدينة المقدسة من أرضهم وعاصمتهم دمشق، والتي كان فتح دمشق من قبل جيوش المسلمين مقدمة لفتح بيت المقدس، وتسلم مفاتيح المدينة من قبل الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والسبب.. الاختلاف على تقييم الوضع والموقف مما يجري، فيما دماء السوريين، ومعهم فلسطينيو سوريا، وهو يعدون بمئات الآلاف، تنزف يومياً في مشهد تراجيدي أزعم أن العالم لم يشهد مثله حتى الآن في حدته وقسوته.
إحياء يوم القدس العالمي لهذا العام يتم ودماء المسلمين في أكثر من بلد عربي ومسلم تنزف بلا أسف أو محاسبة أو رقيب، وفي الحديث: quot;لئن تهدم الكعبة، حجراً حجراً، أهون عند الله من سفك دم امرئ مسلمquot;، وفي رواية أجمل وقعاً وتأثيراً quot;امرئquot; دون تحديد نسبته إلى دين، في تأكيد نبوي على حرمة الدماء أياً كان صاحبها، وهل دماء المسلمين في بورما أرخص أو أقل قيمة من نظيرتها في سوريا على سبيل المثال؟!
المشكلة في إحياء هذا اليوم، وهذا كلام أقوله من واقع عايشته في أكثر من احتفال أو تجمع لإحيائه، أنه تحول في كثير من الأحيان، ما لم نقل معظمها، إلى مناسبات احتفالية اجتماعية يتم فيها استثمار دلالات الحدث من قبل بعض القوى السياسية والمراكز البحثية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية لتأمين موازناتها السنوية من خلال إقامة ولائم لإطعام بعض مرتزقة الإعلام أو الوجوه الاجتماعية والسياسية والحزبية التي لا تعني لها مدينة القدس أكثر من حفنة من المال لتدعيم بقائها ووجودها!؟ فيما من المفترض أن يتم استثمار هذه الأموال في دعم صمود المقدسيين في مواجهة محاولات تهويدهم وتهويد مدينتهم، وإنفاقها على المشاريع الحيوية والبنى التحتية لمدينة القدس وسكانها الأصليين.
يوم القدس العالمي.. مناسبة سياسية أممية مهمة لتذكير من تاه في خضم ملاحقة المسلسلات التلفزيونية الرمضانية، أو ضاعت بوصلته السياسية، بمدينة القدس وفلسطين، قضية العرب والمسلمين وشرفاء العالم الأولى، لكن ما لحق بهذه الذكرى من ممارسات نفعية واستغلالية من قبل البعض، وتصاعد حدة الاحتقان المذهبي بين المسلمين في عدة قضايا أساسية، قد أخفّت من وهج الحدث المفترض تفعيله سنوياً ونشره على أوسع نطاق، والأمل أن تنجح قمة مكة لدول مجلس التعاون الإسلامي، الاستثنائية في توقيتها وملفاتها، في تبديد كثير من الاحتقان القائم، وإيجاد الحلول الكفيلة بتوحيد المسلمين والعرب حول قضيتهم المركزية، مرة أخرى..


... كاتب وباحث
[email protected]