صعقت عندما قرأت اليوم 16 آب/اغسطس فى الصحف عن تصريح للسيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي حول إنشاء جامع كبير في كليات العراق، وآمل أن يظل هذا الخبر خبراً فقط ولا يتحقق على أرض الواقع.

إن العراق أحوج ما يكون الى مدارس ومستشفيات وبيوت للفقراء، حيث لا زالت لدينا الكثير من المدارس المبنية من الطين، غير صحية وبعضها غير مؤثثة، خاصة فى القرى والأرياف، فيضطر التلميذ الى الجلوس على الأرض ويحنى ظهره عندما يكتب فيتشوه ولن يستطيع علاجه فى المستقبل. هذا عدا افتقار تلك المدارس الى الماء الصالح للشرب والكهرباء. أما المدارس فى المدن الكبيرة، فمعظمها لا تحتوى على المختبرات التى تحتاج اليها المدارس، بينما كانت المدرسة الابتدائية التى درست فيها قبل سبعين عاما فيها مختبر كبير وعدة (مايكروسكوبات) ومختلف أنواع القوارير للمواد الكيمياوية، كل ذلك مفقود اليوم فى معظم مدارسنا. بينما نشاهد طلاب المدارس فى الغرب يخصص حاسوب لكل تلميذ والتى يندر وجودها فى مدارسنا. الهوس الديني الذى يسيطر علينا جعلنا نعيش فى عالم يسيطر عليه التخلف والجهل، فى الوقت الذى يحث فيه الدين الاسلامي على (طلب العلم من المهد الى اللحد) و (اطلبوا العلم ولو فى الصين). أما القضايا الدينية فهى بين العبد والمعبود ولا شأن للحكومة بها. متى سنفهم ذلك؟

المصلون يمكنهم تأدية صلاتهم فى أي وقت يريدون وفى أي مكان، وصلاتهم تكون مقبولة كما يقول الفقهاء، فلماذا تصرف البلايين لإنشاء جوامع فى بلد مخرب وشعب مسحوق كالعراق؟ ولنكن صريحين مع أنفسنا ونتساءل كم عدد التلاميذ الذين يصلون فى كل كلية؟ لم يعرف عن العراقيين ولعهم بالصلاة، ومعظم المصلين يؤدونها بحكم العادة وليس للعبادة. فى الكثير من البلدان المتقدمة تخصص فى مطاراتها ومحطات القطار فيها، غرفا مفروشة ونظيفة لاداء الصلاة، لكل من يريد ولكل الأديان، فلماذا لا نكتفى بغرفة متوسطة الحجم فى كل كلية تخصص للصلاة، ونوفر المال ليصرف على أمور نحن بأمس الحاجة اليها لاعادة تعميربلدنا الذى يفتقر الى كل متطلبات العصر الذى نعيش فيه؟

الأدهى من ذلك أن السيد الوزير أعلن عن وضع حجر الأساس للجامع الكبير فى جامعة الكوفة الذى سيتسع لألف مصل، ويضم منارة طولها 45 مترا ونصبا مدون عليه أسماء 190 من صحابة الرسول الكريم الذين عاشوا ودفنوا فى الكوفة. هل أن الدين الاسلامي يأمر بالبذخ وهو الذى يذم المترفين؟ هل أن الرسول عندما بنى أول مسجد فى المدينة جعل له منارة، ناهيك عن منارة طولها 45 مترا؟ وبطبيعة الحال ستعلق فى الجامع الجديد الثريات الفخمة التى ستستورد من المانيا، وتفرش أرضه بالسجاد الايراني الثمين، ويؤثث بكل غال ونفيس من الأثاث الايطالي الفاخر، وتعلق على جدرانه الساعات السويسرية، و لا ننسى مكبرات الصوت القوية التى توقظ حتى الموتى فى قبورهم، وبهذا فقط سيرضى رب العزة عنا وعن السيد الوزير!

ومن ناحية أخرى هناك مسائلة مهمة لا أدرى إن كان السيد الوزير قد بحثها مع مستشاريه، مثل : على أي مذهب سيكون الأذان؟ وهل يفصل بين السنة والشيعة بستار يسدل بين المصلين؟ هل غاب عن السيد الوزير أنه يعيش فى بلد تمزقه الطائفية الدينية، والطوائف فيه يكرهون بعضهم البعض الآخر، وتشتد بينهم الحساسية والبغضاء؟ وماذا عن المسيحيين ألا يستوجب بناء الجوامع بناء كنائس ايضا فى الجامعات وبناء معابد فيها للأديان الأخرى التى تدين بها نسبة كبيرة من ابناء الشعب العراقي؟

عندما بدأت أوضاع الحكم البعثي فى العراق تتدهور، ولإلهاء الناس طلع صدام عليهم بما سماه (الصحوة الدينية) و (الحملة الايمانية) معلنا عن انضمامه الى صف المؤمنين، فأمر وزارة التجارة بمنح إجازات إستيراد للتجار لجلب ما يحتاجونه من المواد الانشائية وغيرها لأجل بناء الجوامع وإعفائهم من الجمارك، فقام التجار المتعطشون الى إجازات الاستيراد، باستيراد مختلف أنواع البضائع وخاصة قضبان الحديد، باعوا معظمها فى السوق السوداء، وخصصوا أقلها لبناء الجوامع، فحصلوا على مبالغ هئلة من المال نتيجة لهذه (الإلتفاتة السامية) من عبد الله المؤمن الرئيس صدام حسين. انى واثق من أن التجار بدأوا من الآن بالاتصالات بالمصدرين، وسيستلم البعض عمولات من التجار كتلك التى كانوا يدفعونها الى بعض الموظفين فى العهد البعثي المباد.

فى يوم أمس بعث لى أحد الأصدقاء بصورتين، احداهما لعلماء (ناسا) وكالة الفضاء الأمريكية، يحتفلون بنجاح رحلة المريخ، والأخرى لعلماء دين مسلمين يغطون رؤوسهم ب(اليشماغ الأحمر) يدعون الى تحرى رؤية هلال شهر شوال. تأمل الفرق الشاسع بين الفئتين!!!.

لماذا لا نتعظ بما حصل فى اوروبا عندما فصلت الدين عن الدولة، وعندها فقط قامت الثورة الصناعية، ونهضوا وسادوا العالم فى كل المجالات، بعد أن كانوا مخدرين من قبل رجال الدين والكنائس. بناء الجوامع والمساجد والحسينيات والكنائس والمعابد، يجب أن يترك أمره للمجتمعات وحدها، فان المؤمنين هم الذين يقومون بهذا الواجب الديني وليس الحكومة. وهذا الأمر متبع فى كل الدول المتقدمة فى العالم، والحكومات التى تبنى دور العبادة إنما تفعل ذلك لغرض الدعاية لنفسها فقط لا غير.