متغيرات و مفاجآت الثورة السورية أفرزت وقائعا ميدانية غاية في الغرابة والتعقيد، و تعبر عن الهشاشة التكوينية للنظام السوري المجرم الذي يواجه اليوم معركة تقرير مصيره النهائي بيد شعبه الحر الشجاع الذي فجر ثورة شعبية هائلة هي بمثابة الأم لكل ثورات الشرق القديم وحيث سرعان ماتبينت الهشاشة التكوينية لبنية النظام العامة رغم مظاهر الرعب الإستخبارية و العسكرية التي يحيط نفسه بها و يحاول من خلال الإستعمال المفرط للقوة و أسلوب إرهاب الدولة الشامل إخفاء معالم التفكك و الإنهيار في بنيته العامة، ولعل توسع ظاهرة الإنشقاقات ووصولها لدرجات مرعبة وحساسة و تصيب النظام في مقتل قد شملت أيضا المنظومة الحزبية البعثية التي هي الشاهد الصامت على الأحداث في ظل تراجع دور حزب البعث العربي الإشتراكي القائد نظريا للدولة السورية عن ملفات إدارة الصراع الداخلي و مواجهة الثورة الشعبية والتي أنيطت بقوات النخبة من الجيش السوري مهمة قمعها بشراسة منقطعة النظير، ولعل ما راج مؤخرا عن إعتقال الأمين العام المساعد للقيادة القومية للحزب الرفيق عبد الله الأحمر في عملية أمنية هي أشبه بمحاولة إنشقاق علنية ما يركز الضوء على طبيعة الصراعات الصامتة في الأروقة الحزبية فليس سرا إن حزب البعث السوري كما كان شأنه خصمه اللدود البعث الراحل في العراق مجرد واجهة سلطوية براقة لسلطة تنتحل إسم الحزب و تهيمن على البلد و مقدراته من خلاله ولكن من دون وجود سطوة حقيقية للجهاز الحزبي على الوضع العام وهي القضية التي إكتشفها مبكرا مؤسس الحزب نفسه الراحل ميشيل عفلق الذي لاذ بالصمت وفضل الإغتراب و الرحيل بعيدا وهو يرى إن الحزب الذي أسسه لم يبق منه سوى إسمه و يافطته الإعلانية ! وهي القضية المحورية التي إكتشفها مبكرا أيضا القيادي و الأديب الفلسطيني الراحل الشهيد كمال ناصر الذي عاصر الصراعات البعثية وعاين عن كثب إنقلاب اللجنة العسكرية السورية بضباطها العلويين على القيادة البعثية القومية في 23 شباط/فبراير 1966 فأطلق صرخته الشعرية الشهيرة و التي لخصت مسيرة وتوجهات و مصير حزب البعث بقوله :

لم يبق للبعث عندي ما أغنيه ودعته و سأبقى العمر أبكيه!

فكانت مسيرة حزب البعث بقطريه السوري و العراقي مسيرة دموية وإستئصالية أكلت العديد من الرؤوس القيادية و أظهرت الهشاشة التنظيمية للحزب الذي تحول لمطية سلطوية يركب على ظهرها الطغاة من المتغلبين و الشقاوات و البلطجية، كما فعل صدام حسين في العراق و كذلك آل الأسد في الشام، و عبد الله الأحمر لم يعرف عنه تاريخيا سوى كونه صدى ضعيف لإرادة سيده الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي إختاره للقيادتين القومية و القطرية منذ عام 1975 وظل إسما ورقما متحركا يشارك في النشاطات البروتوكولية و يشرف على نشاطات بعض البعثيين العرب المرتبطين بالقيادة السورية مثل فروع الحزب في العراق و اليمن وموريتانيا و السودان، وهي فروع ضعيفة لم ترتق مستوياتها القيادية و الميدانية لما هو مؤمل و مطلوب منها، ولم يستطع أي قيادي بعثي أن يبرز في الساحة السورية و ينافس القيادة الصنمية لآل الأسد و الذي ورثها بشار رغم عمره الصغير وحيث يتحكم ببعثيين كانوا في سلم المسؤولية قبل أن يولد الرئيس نفسه في مهزلة سلطوية عرف بها البعثيون و تميزوا عبر تاريخهم القلق و الدموي في الشرق الأوسط، النظام السوري يعيش اليوم في شبكة رعب و خوف هائلة من المفاجآت الخيانية التي يتوقعها في أي لحظة وقد أثبتت الأحداث بأن رصيد حزب البعث السلطوي هو صفر و الحزب بأسره عبارة عن كمية مهملة، و كل الأسماء البعثية التي ظهرت سابقا تم إيداعها في متحف التجميد مثل محمد زهير مشارقة و عبد الحليم خدام وغيرهم الكثير، ولا مناص لحزب البعث السوري إن أراد أن يغفر له الشعب خطاياه من إتخاذ قرار الإنشقاق عن النظام و سحب بساط الصفة البعثية عنه و إظهاره بمظهره الحقيقي كنظام قمعي عشائري تسلطي جاء بالنصب و الدجل و بإنتحال الشعارات، سيذهب حزب البعث تحت أقدام المتصارعين و سيخرج من التاريخ السوري و العربي عاريا بالكامل يجر فضيحته التاريخية في كونه مطية الطغاة و القتلة، و سواءا إنشق عبد الله الأحمر أم لم يفعل فإن حزب البعث تحول لدمعة في التاريخ بعد أن ترك طويلا كمومياء حية، سيخرج البعثيون من التاريخ فجأة كما دخلوه خلسة وهم يجرجرون الويلات التي إقترفوها بحق شعبهم.. إنها النهاية البائسة لحزب رومانسي حلم بالوحدة و الحرية و الإشتراكية فلم يحقق سوى التجزئة و الخراب و الديكتاتورية و الهيمنة الفردية القاتلة... لقد آن أوان دفن حزب البعث فإكرام الميت دفنه....!.

[email protected]