قبل نشوب الحرب العالمية الثانية توجه الفيزيائي (فيرنر هايزنبيرج Werner Heisenberg) على ظهر باخرة إلى أمريكا الشمالية. كان ذلك في شهر أوجست 1939م تماما مثل شهر أوجست 2012م الحامي حول حلب في سوريا حاليا.
قال الرجل في كتابه (الجزء والكل ـ حوارات في الفيزياء النووية) في فصل (تصرف الإفراد حيال الكارثة السياسية) يفعل المرء قبل العاصفة ثلاثا؛ كما هو المبحر في السفينة باغتتها العاصفة؛ ماذا يفعل في مثل هذه الظروف؟ يفعل ثلاثا: شد الحزام، تهيئة أطواق النجاة، ووداع من تحب؛ لأنها قد تكون اللحظات الأخيرة قبل الغرق.
فعل الرجل بنفس القواعد الثلاث؛ أخذ عائلته إلى الجبال. قال قد تكتب لهم النجاة إذا زلزلت الأرض زلزالها حينما تتهدم المدن الألمانية، كما نشاهد في سوريا الأسد هذه الأيام، ثم حمل نفسه لمقابلة صديقه (انريكو فيرمي) الإيطالي الذي فر من الفاشية إلى أمريكا فبنى للأمريكيين الفرن (المفاعل النووي) الذي منه يستخرجون ما يشاءون من قنابل ذرية!
في المقابلة التي يرويها في كتابه حينما سأله (فيرمي) الإيطالي كيف ترى الأمور؟
قال: هي سحب الحرب قادمة لاشك فيها ولا ريب.
قال فيرمي: إذا كان هذا يقينك فلماذا تعود إلى ألمانيا؟
أجاب هايزنبيرج: لسببين؛ أنني كان يجب أن آتي صغيرا يافعا ربما قبل عشر سنوات من الآن؛ فحيث يترعرع المرء يصبح المناخ الذي نشأ فيه أفضل الأوساط له أثرا وتأثيرا.
والثاني أنني بصدد بناء ألمانيا الجديدة، بعد أن لا يبق حجر على حجر. كما سيحصل على ما يبدو في سوريا البعث!
سأله انريكو فيرمي من جديد: وما ظنك بالمنتصر في هذه الحرب من سيكون وهل سيفوز بها هتلر؟
أجاب فيرنر هايزينبيرج: لا .. وهتلر يعلم ذلك!
تعجب فيرمي وسأل: وكيف وصلت إلى هذه القناعة؟
أجاب فيرنر: إنها التكنولوجيا يا عزيزي. الحرب هي الأسلحة والتكتيكات، ولا أعتقد أن ألمانيا لها طاقة تكنولوجية كافية لمواجهة خصومها.
تعجب فيرمي وتابع: ولكن هل يعرف هتلر هذه الحقيقة الحاضرة في ذهنك؟
أجاب فيرنر: نعم يا صديقي فيرمي هتلر يعلم ذلك!! ولكن يا صديقي متى كانت الحرب عقلانية.
نعم متى كانت الحرب عقلانية؟
هذه الجملة هي قانون نفسي وهو ما يقولها القرآن عن المستكبرين أنهم حطب وحصب جهنم هم لها ورادون، وأنهم يمرون على كل آية فلا يرون، وأن على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وأن لهم آذان لا يسمعون بها، وأنهم إلى الهاوية بأقدامهم سائرون. وأنهم عن سبيل الحقيقة منصرفون.
هذه الجملة من علم النفس الاجتماعي ومن حكمة التاريخ تشرح لنا ما يفعل هذا المجنون في سوريا فيهدمها على رؤوس أهلها مقابل أن يبقى في عرش والده الذي وصل إليه والده السفاح غصبا وظلما وزورا.
هذا الفصل من كتاب فيرنر هايزينبيرج (تصرف الأفراد حيال الكارثة) جذبني جدا أكثر من نظريته حول مبدأ اللايقين أو الاحتمال في حركة الإلكترون (Uncertainty Principle)، وهو فصل من فلسفة علم النفس الاجتماعي أكثر من الفيزياء النووية ومشاكلها يقينا أو احتمالا.
أتذكر من القرآن شيء من هذا القبيل حيث وجه الكتاب نظرته نحو فهم حركة التاريخ والبشر وهدايتهم أي السلوك الصحيح أمام خيارات الفناء أحيانا كما هو حال فصيلة السنوريات من عائلة الأسود المفترسة في سوريا.
كان هم القرآن ليس كما يريد أصحاب الإعجاز العلمي! كانت مهمته الرئيسية هداية البشر أكثر من قوانين الفيزياء وتفاعلات الكيمياء وحركة السدم.
نحن في النفس الإنسانية في أعظم سديم وجودي على الإطلاق. وقتل كل سوري وسفك دمه في سوريا الحالية أعظم من كل شيء.
ما تقدمت به يلقي الضوء عما سيحدث في حلب في الأيام القادمة ونحن هنا أمام الأفكار التالية:
الأولى : العقل العلمي مفتوح على كل الاحتمالات بمعنى أن كل شيء قابل أن يحدث على نحو معلق يصعب الجزم فيه واليقين. هذا هو قدر التاريخ من حركة وصراعات البشر. ولذا وجهنا القرآن أن نفهم حركة التاريخ تحت كلمة ألم تر؟ هنا ليست فسيولوجية بل فهم التاريخ من خلال رؤية واعية.
الثانية: قد يسيطر الثوار على المدينة التاريخية؛ فتكون قاصمة الظهر للنظام البعثي الدموي، وتنتقل المعركة من الشمال إلى الجنوب زحفا باتجاه عاصمة الأمويين.
وقد يحدث العكس وقد يحدث حسب تحليل التكنولوجيا التي أوردناها على لسان الفيزيائي الألماني (هايزينبيرج) من انتصار النظام المدجج بالسلاح في حلف يمتد من بكين إلى قم والبقاع مع الأسلحة والخبرة الروسية التي يحاول فيها القيصر الروسي بوتين (رئيس الاستخبارات الستازي الرهيبة في ألمانيا الشرقية قبل نهاية الاتحاد السوفيتي STASI) تحويل سوريا إلى غروزني موسعة.
هذا إن استطاع؛ فهنا المواجهة مختلفة عن قتال الجيب الشيشاني الصغير.
نحن هنا أمام تكنولوجيا عاتية، في مواجهة ثوار يحتاجون لتدريب عالي ومعدات متطورة، مقابل تدخل دولي يريد أن يحقق انتصار طرف على طرف كما يريد ولمصلحته هو، أكثر من الطرف المنتصر، طالما كان التموين بالسلاح ليس من صناعة الثوار.
حاليا في حلب لو وضع سلاح متقدم ضد الطيران لتغير ميزان المعركة بموجب التكنولوجيا المتقدمة.
هذا يظهر مأساة الحرب الحقيقة عارية صادمة، أن من يخوض الحرب يستطيع أن يبدأها، ولكن نهايتها ليست في يده بسبب إمدادات السلاح ونوعيته وكميته.
هنا تقوم الدول العظمى بدور إجرامي لا أخلاقي لأنها تنصر من تشاء من خلال السلاح. هنا من ينتصر قد لا يكون هو الطرف الأحق بالنصر.
نماذج هذه كثيرة عبر التاريخ.
لعل الحرب العراقية الإيرانية هي النموذج الصارخ؛ حيث كانت ثلاثون دولة تمد الطرفين بالسلاح بحيث يتحقق الاحتواء المزدوج كما كانوا يسمونه. أي لا ينتصر طرف على آخر.
حاولت إيران بروح التضحية والكم الهائل من القرابين البشرية أن تحقق النصر عسكريا فعجزت حتى وصلت الأمور إلى استخدام الأسلحة الكيماوية كما يفكر نيرون سوريا الحالي.
ينقل عن رستم غزالة من الصقور الجدد من عتاة مخابرات سوريا وحرامي لبنان الكبير بعد مقتل أئمة المخابرات في 18 يوليو (في الغالب على يد النظام تخلصا منهم وفتح جبهة الحرب الشاملة على الشعب السوري) قوله: سنعمل في سوريا وحلب ما يترك مذبحة حماة في الثمانينات نزهة أمامها.
طبعا هو يقول والجواب كما يقول الرب قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى؟
في سورة القمر آية عجيبة: سيهزم الجمع ويولون الدبر .
حين نزلت كان عمر ر يكرر أي جمع هذا ؟ وأي دبر هذا؟
يقال أن معركة الزلاقة الشهيرة التي أخرت سقوط الأندلس أربعة قرون جرت فيها مراسلة بين (يوسف بن تاشفين) والملك الأسباني (الفونسو السادس) أرسل فيها الفونسو يهدد ويتوعد كما يفعل رستم غزالة سفاح لبنان السابق.
يقال أن ابن تاشفين المرابطي كتب على ظهر رسالته ثلاث كلمات فقط وأعادها إليه: الذي يكون ستراه!
الأب دمر حماة بقتل عشرات الآلاف (أقلها عشرون ألفا والبعض يرفع الرقم حتى أربعين ألفا بمسح نصف المدينة في 27 يوما عجافا وليالي نحسات مدمرات فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية).
الأمر الثالث والأخير: في قناعتي أن النظام قد يربح معركة حلب (حسب فلسفة هايزينبيرج) وينسحب الجيش الوطني الحر، ولكن الثورة السورية لن تقف عند معركة في أي مدينة حلب أو غيرها فقوس الثورة ممتد من القامشلي حتى الحفة ومن البوكمال حتى درع وريف دمشق.
أعجبني تعليق لم أعرف مصدر كاتبه عن حصرم حلب أن النظام الأسدي دمر حمص، ولكنه لم يزد الثورة إلا اشتعالا، ولم يزدد هو من الشعب السوري إلا بعدا، ولم يزد الثورة إلا مزيدا من التصميم على تدمير نظام البعث مرة واحدة وللأبد.
حين انفجرت الثورة الفرنسية أطلقت طاقات عاتية كما يحصل مع ظاهرة التسونامي من انفجار البراكين تحت بحرية؛ فتحمل أطنانا لانهاية لها من موجات المحيط بسرعة طيارة جامبو تضرب بها مدن الشواطئ فتجعلها في دقائق خرابا بلقعا يبابا لا ترى فيها عوجا ولا أمتى!.
هذا هو قدر الطاقات السورية التي تفجرت مع الثورة كما كان مع كل ثورات العالم. لن تخمد على طريقة بوتين وجروزني. لن تتراجع مهما كانت التضحيات. توقعي أن هذه النار ستأكل الغابة السورية الجافة المهيأة للاشتعال والمزيد من اللهب.
قد يطول الأمر وهو أكيد ما لم يتقاتل الرفاق والأخوة والأم الميدوسا الغرغونية (عفوا أنيسة مخلوف زوجة الأسد الكبير السابق) فيفتحون النار على بعضهم بعضا كما حصل مع الرفاق في عدن يوما ما فهلك معظمهم وخنست بقيتهم.
هذا هو قدر انشقاق السدود، وانفجار الحمى وانتشار الفيروس في الأوبئة. في لحظة من الضغط ينفجر فيأتي السيل العرم فيتفجر السد في ضربة واحدة سريعة، وكذلك تنطفيء الحمى في لحظة بعد الذروة، أو يتراجع الفيروس المهلك بعد أن يصل إلى ذروة المخطط. أو يختفي الطاعون بعد أن يمحي محاسن العواصم.
نفس الشيء سيكون قدر سوريا.
في لحظة ما ينهار النظام، وتنتصر الثورة، وتبدأ دورة جديدة من تشكيل الحياة بعد أن قتلها نظام البعث المتخلف عن حركة التاريخ.
وكان وعد ربي حقا.
والمهم هو ليس إزالة هذا النظام الميت بل استبداله بأفضل وأزكى واقرب رحما، كما جاء في قصة نبي الله سليمان الذي كان يتوكأ على العصا وهو جثة لا تملك نفعا ولا ضرا، والجن يخدمون في العذاب المهين، حتى أكلتها دابة الأرض فسقطت الجثة. حينها أدركت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
هذا ما يحدث في سوريا بعد أن جاءت دابة أرض اسمها البوعزيزي فطاح النظام؛ لتكتشف الشعوب أن هذه الأنظمة الشمولية المرذولة متخلفة عن حركة التاريخ، ميتة متعفنة وصلت رائحة عفونتها بأشد من غانغرينا الأقدام السكرية؛ فوجب البتر إنقاذا لحياة المرض.