هناك ثلاث فئات ترتفع أصواتها اليوم في مصر للتنديد بأسلوب حكم جماعة الإخوان المسلمين. الفئات الثلاث يمكن تصنيفها كالآتي: أولاً الفئة التي تختلف فكرياً وأيديولوجياً وسياسياً مع جماعة الإخوان المسلمين، وترفض على الدوام الخلط بين الدين والسياسة، ولا تقبل بالجماعات التي تتخذ من الدين ستاراً لأنشطتها السياسية. ثانياً الفئة التي تختلف فكرياً وأيديولوجياً عن جماعة الإخوان المسلمين ولكنها تحالفت معها في فترة من الفترات لإسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك، ثم تحالفت معها في ما بعد لإسقاط ما قالوا أنه فلول النظام السابق. وثالثاً الفئة التي تختلف تنظيمياً فقط مع جماعة الإخوان ولكنها تتفق معها فكرياً وأيديولوجياً. وعلى الرغم من الاختلافات السياسية والفكرية العميقة بين الفئات الثلاث، إلا أنها جميعها تجتمع اليوم على أمر واحد وهو كيفية تعرية نظام حكم الإخوان المسلمين وإظهار مساوئه وعدم السماح بأن يقود التنظيم الإخواني مصر منفرداً. تضم الفئة الأولى معظم المسيحيين وأعداد من الليبراليين والعلمانيين واليساريين والعقلانيين من المصريين. وتشمل الفئة الثانية أعداداً كبيرة من المشتغلين بالسياسة والإعلام والعمل العام وقادة الأحزاب الكرتونية والنشطاء الوهميين والثوار الموهومين. أما الفئة الثالثة فتضم التيار الإسلامي من غير الأعضاء بجماعة الإخوان المسلمين أو أولئك الذين انشقوا عن الجماعة لاختلافات تنظيمية بحتة.
من بين هذه الفئات الثلاث تبرز الفئة الثانية التي تختلف كلياً وجذرياً فكرياً وأيديولوجياً عن الإخوان، ولكنها رغم كل هذه الاختلافات راحت تتعاون بل وتتحالف مع الجماعة حتى أصعدتها بسذاجة منقطعة النظير إلى سدة الحكم في مصر. يدرك تماماً كل من تابع الأوضاع السياسية عن قرب في السنوات العشر الأخيرة في مصر أن الفئة الثانية من الفئات التي تعارض اليوم حكم جماعة الإخوان المسلمين كانت السلّم الشرعي والمصعد الحقيقي الذي وصلت به الجماعة إلى السلطة في مصر. بدأ الأمر حين تحالف أعضاء من هذه الفئة مع أعضاء من الجماعة في كيانات كحركة كفاية وحركة شباب السادس من أبريل بغرض معارضة نظام مبارك. ثم امتد الأمر إلى التحالف طوال الأيام السبعة عشر التالية للخامس والعشرين من يناير بغرض الإجهاز تماماً على النظام السابق. وبلغ التحالف أخر حلقاته حين تحالف هؤلاء مع الجماعة لإنجاح المرشح الإخواني للرئاسة محمد مرسي وإسقاط المرشح الأخر أحمد شفيق. حلقات من العار تلتصق وستظل تلتصق على جبين كل هؤلاء الذين طأطأوا الروؤس وأحنوا ظهورهم للجماعة حتى تعتليها وتصعد إلى السلطة.
السذاجة السياسية التي أظهرتها الفئة التي تحالفت مع جماعة الإخوان يعسر على المرء المتعقل فهمها واستيعابها. كان كبار هذه الفئة المتحالفة مع الإخوان يزعمون بأن الإخوان فصيل وطني أصيل متجاهلين الطبيعة الدولية للجماعة التي تؤمن بالخلافة والأممية الإسلامية وتنكر الانتماءات والصلات الوطنية وتعتبر أن المسلم الماليزي أقرب للمسلم المصري من المسيحي المصري. مضى كبار هذه الفئة في استغفال أنفسهم ومن وثقوا بهم من المصريين حين أكدوا أن الجماعة فصيل إسلامي معتدل متجاهلين كل التعاليم المتطرفة التي أنتجتها الجماعة من خلال كتابات منظريها حسن البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهم وهي نفسها التعاليم التي يستند إليها أرهابيو التنظيمات الإسلامية المتطرفة الأخرى كالجهاد والجماعة الإسلامية والقاعدة وبوكو حرام في تكفير الأخرين وقتل وترويع الأمنيين. وتجلت السذاجة السياسية لدى من تحالفوا من الإخوان حين ظنوا أن الجماعة ستحترم الحريات والتعددية، وحين أمنوا وبشّروا بأنه سيكون من السهولة الإطاحة بنظام إخواني في حال حاد عن المسار الديمقراطي.
المثير أن هذه الفئة من المتحالفين مع الإخوان والتي تضم من كنا نعتبرهم سياسيين محنكين وإعلاميين كبار وكتاب مخضرمين وروائيين متميزين، والذين ياتي من بينهم من بلغ مناصب دولية وإقليمية ومحلية رفيعة ومن حاز جوائز مرموقة، تبدي اليوم اندهاشاً كبيراً تجاه أسلوب حكم الإخوان الذي يزيد سوءأ عن أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم. يبدون وكأنهم لا يصدقون أن الإخوان انقلبوا عليهم وعلى المباديء التي اشتركوا في وضعها واتفقوا عليها طوال السنوات العشر الأخيرة وفي فترة الأيام الثمانية عشر التي أسقطت النظام السابق. يظهرون على شاشات الفضائيات ويملأون الدنيا ضجيجاً وعويلاً بأن الجماعة خدعتهم وأن قادة الإخوان حنثوا بعهودهم. يا لها من مفاجأة للسذج الذين شاء القدر أن تقع عليهم مسئولية مواجهة جبروت التيار الإسلامي الذي يقوم أفراده بتسخير الدين لخدمة أغراضهم الدنيئة ويستخدمونه في حشد عميان البصيرة والبسطاء والأميين ومن لا حول لهم ولا قوة.
كانت منذ البداية معادلة غير مقبولة وغير سليمة على الإطلاق أن تتحالف التيارات السياسية غير الدينية مع جماعة الإخوان المسلمين، وقد كان الثمن باهظاً. بالطبع لم تدفع التيارات هذه الثمن. الثمن دفعته وتدفعه وستظل تدفعه مصر التي تم تسليمها بالكامل لجماعة الإخوان. فقد وصولوا إلى قصر الرئاسة، وقاموا بكتابة دستور على هواهم، وحولوا مجلس الشورى، الذي حصدوا غالبية مقاعده في انتخابات شارك بها 7% من القوة الانتخابية، إلى مجلس تشريعي حاكم بأمره. الإخوان المسلمون اليوم، بمساعدة أشقائهم وتلاميذهم من الإسلاميين المنتمين للجماعات السلفية والتنظيمات الإرهابية التي روعت مصر في فترة الثمانينيات والتسعينيات بعمليات إرهابية راح ضحيتها الألاف من الأبرياء، قادرون اليوم على إعادة رسم وجه مصر بالطريقة التي تروق لهم من دون معارضة. ومن ذا الذي يستطيع أن يقف في وجه الجماعة التي تحكم السيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية وتسعى للسيطرة على كامل السلطة القضائية أيضاً؟
لقد خدع كل من تحالفوا مع الإخوان مصر، خدعوها بسذاجة قل نظيرها في عالم السياسة. ومن المؤكد أنه لو لم تتحالف هذه الفئة، التي وثقت بها أعداد كبيرة من المصريين، مع الإخوان المسلمين لما وصلوا إلى سدة الحكم. فقد كان من الضروري لقادة الإخوان أن يرتدوا رداء الشرعية عبر التحالف مع قوى شرعية. وكان من المهم لقادة الإخوان، خلال سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك، أن يختبئوا خلف التيارات السياسية الشرعية حتى لا تنهمر عليهم مطارق النظام الذي كرهوه وكرههم. لم يرد قادة الإخوان في الخامس والعشرين من يناير خوض معركة غير مضمونة النتائج مع نظام مبارك، فقبلوا بفرصة التحالف الذهبية التي قدمهتا لهم التيارات السياسية الساذجة. كان قبول الإخوان بالتحالف أمراً تكتيكياً ومؤقتاً وليس استراتيجياً أو دائماً. كانوا يدركون أن التحالف مع القوى غير الإسلامية سينتهي بانتهاء الغرض منه وهو الوصول إلى سدة الحكم. وقد فعلها الإخوان. وأنهوا تحالفهم مع القوى السياسية غير الإسلامية بعيد سويعات قليلة من وصولهم إلى السلطة.
اللوم اليوم لا يقع على جماعة الإخوان المسلمين التي تنفذ ما تؤمن به من خداع وحيلة ومكر وكذب وحنث بالعهود والتنكر للأصدقاء ومن ساعدوها في الأيام الحوالك التي عاشتها. اللوم اليوم يقع على قادة التيارات السياسية التي تحالفت مع الإخوان، هؤلاء الذين أوصدوا عقولهم ولم يقرأوا التاريخ ولم يفهموا الإخوان وألاعيبهم وأساليبهم وغاياتهم. اللوم اليوم يقع على طأطأوا رؤوسهم ومن أحنوا ظهورهم ليصعد عليها قادة الجماعة إلى قمة السلطة. اللوم اليوم يقع على من عاشوا طوال أعمارهم في أبراجهم العاجية وتركوا المواطن المصري البسيط في قرى مصر ونجوعها ضحية لذئاب الإخوان والتيار الإسلامي. اللوم اليوم يقع على من اكتشف فجأة أن صعيد مصر الذي اخترقه الإسلاميون قبل أربعين عاماً قد أصبح مرتعاً للتيار الظلامي. اللوم اليوم يقع على من هبطوا على مصر بالباراشوتات ليس بغرض إصلاح ما أفسده الدهر في مصر وإنما بغرض الانتقام من نظام مبارك بسبب خلافات شخصية. اللوم اليوم يقع على من تحالفوا مع الشيطان الأكبر والأكثر خطورة لإسقاط نظام فاسد.
بقدر ما كانت مصر تحتاج إلى ثورة سياسية لإسقاط نظام مبارك الفاسد، فإنها كانت بحاجة إلى ثورة اجتماعية تؤهل وتعلم وتهذب وتنور وتثقف. المنطق يقول أن الأولوية كان يجب أن تكون للثانية لأن وقوع الأولى قبل الثانية يترك مصر فريسة للتيارات الظلامية المتمسحة بالدين. كان من الطبيعي أن يقود وقوع الثورة السياسية قبل حدوث الثورة الاجتماعية إلى نظام أكثر سوءأ من النظام السابق. لكن فئة السياسيين من المتحالفين مع الإخوان لم تمتلك أبداً الرؤية الصحيحة، فذهبت أو انقادت إلى الاتجاه الخاطئ. بعض قادة هذه التيارات أدرك مدى سوء الدور الذي لعبوه في وصول الإخوان إلى الحكم. وقد اعتذر عدد منهم بشجاعة لمصر وللملايين من المصريين الذين ساءهم الدور الذي لعبه. البعض الاخر من قادة هذه التيارات مازال يستكبر ويعاند ولا يعترف بأخطائه وخطاياه، ومن المؤكد أن التاريخ لن يصفح لهم أخطائهم وخطاياهم بحق مصر التي أضاعوها وسلموها للإخوان على طبق من ذهب.
جوزيف بشارة
[email protected]
التعليقات