لا تستهدف هذه السطور أشخاصاً بغية التقليل من شأنهم أو الطعن في شخوصهم،، وإنما هي الضريبة التي يدفعها المنشغلين بالعمل العام، أن تكون تحركاتهم محل رصد ومدح وقدح، وعليهم إن لم يرحبوا بالنقد أن يتقبلوه بصدر رحب، خاصة إن كان النقد في هذه السطور رغم ما يبدو من قسوته ينطلق من أرضية تقدير إنساني كبير للدكتور محمد البرادعي، الذي صار منذ العام 2009 أيقونة الثورة وأمل شباب شباب مصر في أن يتصدر مسيرة تخرج به من حالة الركود والتعفن المباركية إلى رحاب مستقبل يليق بشعب كالشعب المصري أن يحياه، فالرجل بالفعل إنسان جميل، ووفر له عمله العالمي وجائزة نوبل قدرات أراد هو وأردنا نحن أن يوظفها لخدمة وطنه، والرجل أيضاً مخلص لوطنه ولمبادئه ما في ذلك شك.
كل ما تقدم جميل ورائع، لكن أداء د. البرادعي منذ لحظة وطأت أقدامه مطار القاهرة في رحلة العودة من وظيفته العالمية كان مخيباً لكل من تعلقوا به ووضعوا آمالهم في قيادته أو ريادته للمسيرة المرجوة، ومن يومها وإلى الآن اتضحت وتتضح عدة أمور، أولها افتقاده لخبرة مخاطبة الجماهير والتعامل معها، ليس فقط خبرة جذب جماهير إليه وإلى مشروعه، ولكن أيضاً خبرة الاحتفاظ بمن هرعوا إليه مرحبين آملين، اتضح أيضاً عجزه عن قراءة الواقع السياسي المصري قراءة جيدة، فترك نفسه ألعوبة في يد أشد العناصر خطورة على مشروع الحداثة الذي يأمله ونأمله معه، ولم يحاول الشيخ الوقور حامل درجة الدكتوراه مع خبرة إدارية عالمية حصل بموجبها على جائزة نوبل أن يسعى للاضطلاع على حقيقة الأوضاع المصرية عن طريق دراسات عديدة قام بها من يقدرون على هذه المهمة غير الهينة، لكن أخطر ما نود الإشارة إليه هنا هو عدم قدرة صاحبنا على التعلم من أخطائه الشخصية، فما ارتكبه منذ وصوله من الالتحاف بفلول المعارضة العروبية واليسارية والإسلامية وحذرناه منه وقتها، وترتب عليه تهميش مشروعه أو الاستئثار بالثورة من قبل فريق واحد هو التيار الإسلامي، مازال يكرره الآن فيما نستطيع تسميته الجولة الثانية من الثورة المصرية، والتي تستهدف إعادة المسيرة الشبابية المصرية إلى خطها الأول المتمثل في شعار: quot;عيش. حرية. كرامة إنسانيةquot;، مازال يتحالف مع حمدين الصباحي وناصريته البائدة، ومع quot;د. عبد المنعم أبو الفتوحquot; الليبرالي صباحاً والسلفي الجهادي مساء (على حد قول أحدهم)، بل وزاد على ذلك اجتماعه بشيوخ الدعوة السلفية باعتبارهم في نظره خبراء في السياسة، وليسوا رجال دين عليهم التفرغ لدعوة الناس لتقوى الله وترك السياسة لأهلها. . يفعل هذا بالطبع تحت لافتة أثبتت فشلها الذريع في الجولة الأولى، وهي لافتة quot;الائتلاف الوطنيquot; وتجميع كل قوى الوطن الثورية، هكذا بالمطلق دون فحص وتدبر مع من يأتلف، وماذا يمكن أن يحقق بمثل ذلك التآلف. . هو وأمثاله مصممون على الانطلاق من ذات المقدمات التي سبق وعايشنا فشلها، بأمل الحصول منها ذاتها على نتائج مختلفة.
كان لكاتب هذه السطور اجتهادات في السنوات الأخيرة نشرها في موقع quot;إيلافquot;، تشخص الحالة المصرية على ما هي عليه، وتضع تصورات أو خطوط عريضة لما تحتاجه، وعندما بدأ في عام 2009 الحديث عن البرادعي كأيقونة للتغيير، جمعت تلك المقالات في كتاب بعنوان quot;مصر وحلم الثورة الخضراءquot;، وأراد ناشره لدواع تجارية أن يجعل عنوانه quot;البرادعي وحلم الثورة الخضراءquot;، وقد كان بالفعل جانب كبير من الكتاب يتحدث عن د. محمد البرادعي والمشروع المأمول منه ريادته، كما يتضمن الكتاب نقداً لما ظهر من الرجل من تحركات وما أطلق من أقوال رأينا فيها خطورة على مشروعنا المشترك. . نُشر الكتاب في مارس 2010، والمذهل أن د. البرادعي لم يكترث غالباً بالاطلاع عليه وتأمل محتوياته، رغم الضجة التي تسبب فيها الكتاب في أوائل أبريل 2010، بسبب ما قيل عن اعتقال أمن الدولة لناشره، وتفرغت وكالات الأنباء والقنوات الفضائية المحلية والعالمية وقتها للموضوع، وأدلى هو بنفسه بتصريحات لوكالات أنباء عالمية بخصوص اعتقال الناشر لكتاب يحمل اسمه، نفترض أنه لم يكلف نفسه الاضطلاع على الكتاب، لأن الافتراض الثاني أشد وبالاً، وهو أنه اضطلع عليه لم يستوعب حرفاً مما جاء به، ذلك أنه مازال حتى يوم الناس هذا يكرر ذات الأخطاء التي حذرناه منها، وثبت صحة ما ذهبنا إليه.
لست بالطبع بصدد عمل دعاية للكتاب لدواع تجارية أو فخر شخصي، لكنه الحزن والأسى على ما يحدث ببلادي وسبق أن قمت بوصفه بدقة في سطور لم أقصر في نشرها، أولاً كمقالات في هذا الموقع الرائد quot;إيلافquot;، ثم نشرها مجمعة ومنسقة في كتاب لاقى من الشهرة ما تصورته كافياً لإبلاغ الرسالة.
كنموذج لما يحويه هذا الكتاب وذهب أدراج الرياح سوف أترك بقية المساحة لواحد مما تضمنه من مقالات، كان قدر نشر في quot;إيلافquot; يوم 2 يناير 2010 بعنوان: quot;طريق البرادعي. . عقبات وشراكquot;.
اضغط هنا
ليرى القارئ العزيز حجم التهاون والعشوائية وفقدان القدرة على الرؤية والعجز عن التعلم لدى صفوة تقود مجتمع وشعب كبير كالشعب المصري إلى الخراب، بدلاً من أن تخرج به لأنوار العصر.
طريق البرادعي. . عقبات وشراك (إيلاف في 2 يناير 2010)
التصور الغالب وربما الأوحد في نظر الجميع، أن قبضة النظام المصري الحالي القوية هي العقبة الوحيدة أمام د. البرادعي، سواء في طريق ترشيحه لرئاسة الجمهورية، أو في تحقيق ما ينشده وتنشده معه الجماهير التي تناديه من تغيير. . لكننا بدون أن نقلل من أهمية وخطورة هذه العقبة الكأداء، نرى على أرض الواقع عقبات ربما لا تقل عنها خطورة، وربما كانت هي الأكثر استعصاء على المعالجة. . هي عقبات قد توقف تماماً مسيرة التغيير المرتجى، وقد تتحول بها عن طريقها، لتدخل بنا في في واحد من أكثر من نفق مظلم!!
المشكلة الظاهرة للعيان، هي النظام السياسي الحالي، بتشريعاته وشخوصه، لكنها ربما في الحالة المصرية تحديداً، ليست مشكلة مستقلة، أو واقع رديء مفروض على شعب يستحق ما هو أفضل. . فالأمر لو كان هكذا، لكانت معالجته يسيرة، أو على الأقل أيسر منالاً. . الواقع أن الحالة أو المعضلة السياسية ما هي إلا ثمرة لواقع حال أمة، لم تعد تملك من مواصفات مفهوم quot;أمةquot; إلا بعض المظاهر والقشور، وبقايا متناثرة من حقائق واقعية، لم تصل إليها يد العبث والتدمير بعد.
يعني هذا أمران، أولهما أن محاولة البدء بتأسيس تشريعات ونظام سياسي حديث وليبرالي، لن تؤدي للنتيجة المرجوة، بل وقد تتسبب في كارثة من باب صناديق الاقتراع، كما حدث مثلاً في غزة البائسة. . وثانيهما أن أي محاولة لما يشبه ثورة تغيير، تتجه وجهة حداثية، ستواجه بتيارات شعبية (وليست حكومية وبوليسية) تعصف بها ذات اليمين وذات اليسار. . مواجهة السلطات وأدواتها العسكرية والبوليسية الجهنمية، أهون مرات من مواجهة مثل هذه التيارات الشعبية. . نعم القطاع الأكبر من الشعب المصري بريء، وسينصاع راضياً لتوجهات التحضر والتحرر، لكن الفاعل والجدير بالاعتبار هنا هو القطاع الناشط من المجتمع، وهم الذين يؤثرون جدياً في المعادلة الوطنية، التي يتحتم على أي حركة تغيير أن تتوصل إليها.
نعم كما قال د. البرادعي وقيل عنه، أنه ينبغي أن يكون رئيساً توافقياً، يجمع إليه الأمة باختلاف مكوناتها، ليتوصل معهم إلى قواعد مشتركة للعمل الوطني، وإلى توجه وطني يستقيم خطونا في السعي نحوه. . لابد بالفعل أن يكون ذلك كذلك. . لكن هنا أيضاً يكمن الخطر الأكبر، الذي يهدد الآمال التي يعلقها دعاة الحداثة والحرية، على المسيرة التي يأملونها مع شخصية عالمية وليبرالية كشخصية د. البرادعي!!
إذا كنا متفقين على أن ما يعرف quot;بالأغلبية الصامتةquot; هي في موقف حيادي بين مختلف الفرقاء، وأنها غير قادرة على تمييز quot;الحمرة من الجمرةquot;، خاصة في ظل ظروف وملابسات غاية في التعقيد. . وكنا متفقين أيضاً على أن النسبة المتوقع تنشيطها وتفعيلها من هذه quot;الأغلبية الصامتةquot; نسبة ستظل ضئيلة الحجم والتأثير، حتى في أكثر الاحتمالات تفاؤلاً. . لن يتبقى أمامنا جدير بالاعتبار والنظر، غير ما يعرف بالنخبة، والشريحة الجماهيرية المتأثرة بها. . تلك التي نستطيع استعراضها حالياً في أربعة أقسام رئيسية:
القسم الأول والأحدث تكويناً هو ما يصح تسميته quot;شباب الفيسبوكquot;. . فقد أتاحت ثورة الاتصالات والإنترنت لملايين الشباب أن يكون لهم صوت، وأن يتواصلوا مع بعضهم البعض، فكان أن وجدنا هؤلاء الشباب هم أصحاب الصوت الأعلى في استدعاء د. البرادعي، وفي الرد على أبواق السلطان التي تجردت من الحياء قبل أن تتجرد من المنطق وعقلانية المعالجة، فراحت تهاجم الرجل، بما يكفي لأن يزداد الشباب إيماناً به، وبالضرورة الملحة لقيادته لمسيرة التغيير المصرية. . هذه الآلاف المؤلفة من الشباب على موقع الفيسبوك، يمارسون السياسة للمرة الأولى، ويقدم قطاع كبير منهم نفسه بأسماء حركية أو وهمية. . قطاع كبير منهم أيضاً غير مستعد لأكثر من تدوين بضع عبارات على صفحات افتراضية، دونما نِيَّة أو مقدرة أو متسع من مشاغله اليومية للنزول إلى العالم الحقيقي، ليمارس النضال السياسي على أرض الواقع. . بالطبع لن يظل الحال على هذا طويلاً، فلقد انكسر جدار الصمت والتخوف الذي سجن المصريين خلف قضبانه طويلاً، وتهلهل ستار التعتيم والتكتيم الذي تمارسه الدول الشمولية على شعوبها. . سوف تبدأ تجمعات العالم الافتراضي الشبابية في التجرؤ على النزول إلى الشارع، ليكونوا هم روح مصر التواقة إلى الحرية والحداثة، والساعية بجد لمستقبل أفضل، فالمطروح على مائدة البحث هو مستقبل هؤلاء الشباب، وليس مستقبل عواجيز الستينات والعروبة وجنات الخلد. . نستطيع إذن أن نقول أن هذا القسم من النخبة هو السند والأمل الحقيقي للثورة الخضراء المتوقع من د. البرادعي أن يقودها، لكنها حتى الآن في دائرة الإمكان أو الوجود بالقوة، أكثر منها واقعاً حقيقياً وراسخاً يمكن الارتكان إليه.
القسم الثاني من الصفوة، هم الليبراليين من الكتاب والمفكرين والإعلاميين والمتأثرين بهم. . هم حتى الآن أفراد تكاد لم تبتل أقدامهم بمياه المحيط المصري المتلاطم، وكأنهم كائنات رهيفة رقيقة، لا تقوى على النزول إلى الشارع، لئلا تتسخ ياقاتهم البيضاء بغباره، والذي لا يليق بالطبع بقاماتهم الرفيعة!!. . الشك كبير في أن يتقدم هؤلاء أي مسيرة، أو يحاولوا اقتراف الفعل العملي، وليس فقط أحلى الكلام وأدق التحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. . المفترض في هؤلاء أن يكونوا قادة ورواداً للقسم الأول المكون من الشباب، فهل يفعلونها يوماً، هل يفعلونها الآن، ليكونوا في الصف الأول من مسيرة البرادعي الخضراء؟!!
القسم الثالث أغلب اليساريين والناصريين والقومجيين، الذين يعيشون معارك ستينات القرن العشرين، ويتحركون بمفاهيمها في الألفية الثالثة. . هم مسكونون بنظرية المؤامرة والعداء للعالم الحر والمتحضر، ويركبون الآن أغلب وسائل الإعلام بمختلف أنواعها. . هؤلاء بالتحديد هم الأشد خطراً في حالة انضمامهم للمسيرة المنتظرة. . هم كفيلون بتخريبها، وتحويلها لمحاربة طواحين الهواء. . يخلقون بيئة معادية للآخر، خانقة ومانعة للاستثمار والرأسمالية، مفضلين اشتراكية الفقر والإفقار. . أما في حالة ما اذا تلمسوا نهجاً ليبرالياً من د. البرادعي ومن معه، فسوف يقفون كالأسود شاجبين منددين مخونين، وهم كفيلون بإصدار من الضوضاء ما يكفي لإفشال محاولات إيقاظ الشعب المصري من غفوته الأزلية. . لا تعني تلك الكلمات رفضاً منا لهؤلاء، ولا تتقصد تهميشهم أو استئصالهم، بل هي دعوة وتحفيز لهم ليلتحقوا بالعصر، مخلفين ورائهم ما تجاوزه الزمن من علاقات وقضايا ومفاهيم، وما ثبت بطلانه وفشله من أيديولوجيات ودعوات!!
القسم الرابع والأخير أشهر من أن يحتاج إلى تعريف، وهو تيار الإسلام السياسي، ذو الدعاوى والأفكار العنصرية، والذي يعني الإصلاح في مفهومه العودة إلى قيم وقوانين أربعة عشر قرناً مضى. . هؤلاء يعني التوافق معهم، أي مقابلتهم في منتصف الطريق، أن يكون تحركنا محلك سر. . فالنظام الحالي يقيم الآن هذا التوافق معهم، متقاسماً السلطة على الشعب المقهور والغائب. . هم أشبه بفيروسات لا يمكن تجاهل وجودها، ولكن أيضاً يجب التعامل معها عن بعد، حتى لا يعيدون تكرار ما فعلوه مع نظام الحكم الحالي، إذ تسللوا إلى كافة أعضائه ومفاصله، فكان له الاسم، ولهم الفعل والفاعلية. . لقد ركب أقران هؤلاء الثورة الإيرانية، وعلقوا بعد نجاحها شركاءهم الليبراليين والشيوعيين واليساريين على أعواد المشانق. . لو كررنا نحن مثل تلك التجربة، سنكون بالفعل quot;كمن يستجير من الرمضاء بالنارquot;!!
هكذا ونحن ندعو د. البرادعي أن يبدأ مسيرته معنا من الشارع المصري، فإنما ندعوه إلى أصعب المهمات وأكثرها تعقيداً. . هي معركة تهون بجانبها كل ما يمكن أن نواجهه من السلطة وأجهزتها المهيمنة.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
التعليقات