القسم الأول: أنا
ها أنا ذا أتوسط العقد الخامس من عمري، ربيعُهُ قد ولّى إلى غير رجعة، خمسٌ وأربعون مررْنَ كأنهُنَ الأمس على الرغم من ثقلهنّ، وما كُنَّ يحملْنَ من مآسٍ ومحن وابتلاءات، رزحت تحت أعبائها طويلاً.

خمسٌ وأربعون مضيْن، لم أكن قد أحسستٌ خلالهنَّ، يوماً، بأنيَ إنسان، عقلٌ معطَّلٌ بما يمتلك من عظيم القدرات، ونفسٌ أمّارة بسوءاتها كانت قد اتخذت من ذلك العقل مطيةً لشهواتها، كبُرت طموحاتُ الجسد فاتخذ من النفس مركباً له، يستفيد من قدراتها، الشريرة، في بلوغ مآربه الدنيئة.

لفد كنت من البهائمِ أدنى، وحبذا لو أنني أنتمي إلى فصائلها، ولكني حُبيت بجوهرةٍ الإدراك والتمييز، ومع ذلك منحتها إجازةً طويلة، فأنا من المحسوبين على صنف البشر، بما مُيّزتُ به عن العجماوات، ولهذا، نزلت إلى مستوىً دون البهائم، حين تجاهلت ذلك.

لم أكن أعرف ما أنا، ومن أنا، وكيف لي أن أعرف وقد أسدل الجسد غشاوته الثقيلة على عينَي بصيرتي، فلم أعد أعي ما أنا، كما لم أعِ ما حولي.

هَمّي عَلَفي، فكان قدري ما يخرجُ مني، أعمت شهوتي بصيرتي عن كل شيء، لم أكن أر من إنسانيتي شيئاً، ضياعٌ في ضياع، كل ما حولي شبيهٌ بي، فأنّى لي أن أدرك خللي مادام جميع من حولي هم معيَ سواء؟
يا الله، ما كان أحوجني إلى فانوس (ديوجين إلائرسي)، الفيلسوف اليوناني الذي كان يحمله في وضحِ النهار، وسط سخرية أمثالي ليبحث بيننا عن إنسان.

العالم حولي مليء بالعِظات، غير أني لم أكن لأتعظ بشيء منها، لم أكن لأتّعظ بالموت الذي يحصد المئات في بلدي وغيرها كلَّ يومٍ، مع أنه حسب الموت واعظاً لنا، لم أكن لأتعظ بالكوارث التي تحدث تباعاً، لم أكن أتعظ بالمرض، ولا بساعات الضعف، بــــ، بــــ، لم أكن لأتعظ بشيء، استندتُ إلى قوتي، وتركتُ القوة المطلقة.

جميعُ من حولي هم مثلي، وإذا كان هناك من البشر فهو منزوٍ في صومعته أو كهفهِ، هارباً من التلوث بي وبأمثالي، لم يكن يعي مسؤوليته تجاهي وتجاه غيري، فانقطع إلى ربه مستجيباً لنداء أنانيته بالنجاة.

لقد كنت أسيرُ بخطى حثيثةٍ نجو الهاوية، معصوب العينين، أعمت البهيمية عيني عن كل ما يدعو إليه العقل،حتى بلغت حافة الهاوية،ووضعت أول قدمٍ لى على شفا جرفها، وإذا بي أهوي من شاهقٍ لا قرار له، لحظات أحسستها زمناً استعدتُ خلالها شريط خمسٍ وأربعين سنة بكامله، حتى إذا شارف الشريط على نهايته ارتطمتُ بالأرضِ على رأسي، فتحتُ عينيَّ على أرضٍ لم أكن أعرفها من قبل.

تحسستُ جسديَ المنهك، أأنا ميتٌ أم حي، إنها ذات الأرض التي كنتُ أحيا عليها لم تكن لتختلف في شيْ، ولكنها تختلف في عيني، نظرتُ إلى نفسي أحسست بمقدارٍ من الإنسانية يدبُّ بي.
مشيتُ في الطرقات إنها ذات الطرقات ولكن لماذا هي أجمل اليوم، مشيتُ بين الناس، يا إلهي كم أود الاستفراغ، إنهم من كنت أعيشُ بينهم، هذا فلان، وذاك فلان، وتلك فلانة، لماذا هم كذلك؟
أين آدميتهم؟ أين إنسانيتهم؟ أين بشريتهم؟

هل كنتُ منهم طوال تلك السنين؟ يا إلهي سأضع إصبعي في بلعومي كي أتقيأهم، كما تقيأتُ نفسي.
أين أنت يا ديوجين، أدركني بفانوس حكمتك، علّني أرى من يشاطرني إنسانية اليوم.