قال الراوي يا سادة يا كرام: يحكى أنه لما خرج الشباب والإخوان في مصر في 25 يناير 2011 ثائرين، مطالبين بإسقاط نظام الحكم. فانتهزت عصابة الإخوان المسلمين المحظورة الفرصة. وخرجت كوادرها من السجون إلى كراس الحكم. ثم اتضحت وافتضحت ظلامية الإخوان وفشلهم في إدارة البلاد. وظهر جلياً خواء الشباب وانصياعهم لبعض الأفاقين الذين أنتجتهم العصور السابقة وتسموا معارضة. حدث أن ضاقت البلاد والعباد بالحياة، فخرجت جماهير الشعب المصري عن بكرة أبيها في 30 يونيو 2013، ترفض الفوضى والفشل وحكم الأردياء.

ويستمر الراوي في أنينه وهو يحكي:
لكن الشعب الذي تصور للحظات أن مركب بلاده قد أوشكت على الوصول إلى بر الأمان، بالتخلص من الإخوان وأذيالهم، من سائر تشكيلات الإرهاب والكراهية. تطرق أسماعه الآن همسات تتسلل من وراء الجدران، تفشي مؤامرة جديدة تحيكها ذات الأطراف التي قادت البلاد للتهلكة في يناير. ويقال أن عوام الناس الآن في حيرة، كيف يمكن لهم التخلص من كافة هؤلاء، الذين لا يأتي من ورائهم إلا الخراب. فالحقيقة أن مشروع عبد الناصر القومي العربي، كان نسخة مصغرة من مشروع الخلافة الإسلامية. إذ يستند المشروعان إلى نفس المحور. ويصلان بنا إلى ذات النتائج. ومن التناقض أن نلوم الإخوان على مقولة quot;طظ في مصرquot;، فيما ننسب الوطنية لمن محا اسم مصر، واستبدله بإسم quot;الإقليم الجنوبيquot; من إمبراطوريته المزعومة. نقول هذا لأن أصحاب المشروعين العروبي والإسلامي يكادا ينفردان بالتصارع الآن في الساحة المصرية. فيما أصحاب الهوية المصرية لا يجدون لهم مكاناً، حتى في الفناء الخلفي. فلن تعرف مصر طريق السلامة، إلا إذا صارت quot;مصرquot; فقط، دون إضافة أي صفة إليها.
كان كاتب هذه السطور شخصياً مستمراً قبل وبعد ثورة يناير في الحديث عن quot;المفروضquot;، طلباً لمصر حديثة متطورة، تعوض ما فاتها من قطار الحضارة العالمية الراهنة، التي سبقتها إلي الالتحاق به العديد من شعوب الأرض. لكنني الآن وبعد كل ما تكشف من أحوالنا، أجدني غارقاً في تأمل الهوة الشاسعة بين quot;المفروضquot; وquot;الواقعquot; الفقير الضنين، ويبدو أننا جميعاً الآن مضطرين للمطالبة بالعودة للخلف. فإزاء فريق يطالب بالعودة للقرن السابع الميلادي بقوانينه وعلاقاته ومفاهيمه. وفريق بالعودة للستينات التي يسمونها quot;سعيدةquot;، بهيمنة الدولة على الاقتصاد، ومعها بالضرورة الهيمنة على كافة مناحي الحياة، رغم علو صوت هؤلاء، مطالبين بالحرية والديموقراطية. نجد فريقاً ثالثاً يجد نفسه مرغماً على اللجوء إلى المطالبة بالعودة لعصر مبارك، رغم معرفتنا كلنا، تجميده وإفساده للحياة السياسية، من أجل البقاء على كرسيه، وتوريثه لابنه من بعده، علاوة على سائر المآخذ، التي أفاض في التنبيه إليها كاتب هذه السطور في حينه، وفي عز هيمنة نظام مبارك. . الفريقان الأولان يطالبان بالتقهقر بناء على رؤى استراتيجية، باعتبار هذه الحقب في نظرهما حقباً طوباوية، يتحتم علينا العودة إليها، لنتسنم الوضع اللائق بنا في العالم، إذ تعد بالنسبة لهما هي الهدف المأمول من الثورة، أما الفريق الثالث الذي ينتمي إليه الآن كاتب هذه السطور، فيطالب بالتراجع تكتيكياً، ريثما تتوفر للشعب المصري مقومات التحرك للأمام، تجاوزاً للمستوى الحضاري الذي وصلنا إليه في عهد مبارك.
هناك من أيدوا ثورة 25 يناير، من منطلق أن عهد مبارك قد طال أكثر مما ينبغي، وأن علينا أن نحاول التغيير لما هو أفضل، وهنالك من تخوفوا منذ البداية من التغيير ورفضوه قطعياً. وما حدث ويحدث الآن علاوة على المتوقع المرئي للمستقبل القريب، هو خيبة آمال الفريق الأول في تحقيق تغيير إيجابي، وثبوت صدق توقعات الفريق الثاني، بأن التيارات الفاعلة والدافعة للتغيير، تفتقد لأية رؤية يمكن الاستبشار بها لمستقبل أفضل، بل وهي تيارات تخريبية بكل المقاييس لكل ما هو قائم ومتحقق. . ويمكن النظر إلى جسد ثورة 30 يونيو التصحيحية، باعتبار قوامه الأساسي هو هذان الفريقان، فريق الأمل في التغيير للأفضل، مع فريق الرفض للسير في مسيرة التغيير من الأساس. . على هذين الفريقين الآن التوحد والتكاتف، لا نقول للعودة، ولكن للارتقاء بمصر من سقطتها الراهنة، لتصل إلى مستوى ما كان في عهد مبارك.
حالياً أمامنا أربعة نماذج، يمكن أن نختار منها بكل حرية: الاستبداد الناصري، وquot;البين بينquot; المباركي، والتخلف الصريح الإخواني أو الفوضى. وربما كان الاستبداد الناصري هو الأنجع كمقدمة للخروج مما نحن فيه، فإن كان غير مستطاع الآن، لتغير الظروف العالمية والمحلية، فأمامنا خياران في نطاق الممكن المرحلي، وهو مثيل نظام مبارك أو الفوضى.