واضح الآن أن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط ليس ربيعاً عربياً تتفتح فيه زهور الحرية والحداثة، وأنه أقرب لانفجارات متتالية لصناديق بارود مرصوصة بجانب بعضها البعض، كانت تنتظر شرارة واحدة بدأت من تونس التي quot;كانت خضراءquot;، لكي تتوالى بعد ذلك تفجيراتها، حتى تغير وجه الحياة تماماً، أو بالأحرى تعود بها إلى سيرتها البدائية الأولى. . إلى حد بعيد كان إدخال أغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط الموزعة بين الانتماءات القبلية والعرقية والدينية إلى انتماءات جديدة باسم دول حديثة عملية متعسفة ومصطنعة، وما حدث هو أن فشلت تلك التكوينات الجديدة في صهر محتوياتها المتباينة في بوتقتها، رغم نجاحات عديدة في مناطق متفرقة من العالم في عمليات دمج لمكونات إثنية متباينة لتشكل دولاً حديثة، وفي مناطق لا تتمتع بقدر من التطور المادي والحضاري يرجح الانتقال إلى الهياكل السياسية الحديثة يفوق ذاك الذي تتمتع به منطقة الشرق الأوسط، بما يعني وجوب تهميش عامل نضوج الأوضاع المادية كعامل مؤثر ينسب لافتقاده هذا الفشل.
ربما نتج هذا الإخفاق في الشرق الأوسط عن جمود شخصية الإنسان في هذه المنطقة وعجزه عن التطور، أو لطبيعة الثقافة والمعتقدات السائدة، والتي من طبيعتها التنافر والعداء للآخر وعدم قابليتها للتغير والتطور، وهو ما قد يفسر امتداد التشرذم إلى الشعب المصري الذي عرف الدولة الوطنية منذ فجر التاريخ، فكانت النتيجة ما نشهده الآن من حراك قام به صفوة شباب الألفية الثالثة توقاً للحرية والكرامة الإنسانية، وقد تحول في سوريا كمثال صارخ إلى حالة تفتت وتشرذم وتقاتل دموي بين سائر ما يعتبره العالم بقايا أزمنة بدائية بائدة. . الأمر هكذا يبدو وكأنه ثورة واسعة شاملة لتلك الشعوب على الحداثة المفروضة عليها فرضاً، وكأنها تحاول القفز من عربة الزمن، هروباً إلى الماضي البدائي الوحشي الذي يتفق وقدرات وميول إنسان المنطقة. . يبدو كمحاولة الوصول إلى حالة اتساق وتوازن نفسي، بين القيم والثقافة العتيقة التي يعتنقها عموم الناس، وبين حقائق الحياة الحديثة وعلاقاتها المفروضة عليهم فرضاً، وهو التوازن الذي افتقد عبر مرحلة التحديث المادي التي جرت منذ بدايات القرن التاسع عشر، دون أن يصاحبها تطور مماثل وبذات القدر والمعدل في الجوانب الثقافية، وفي الكيفية التي يرى بها إنسان المنطقة ذاته والعالم من حوله.
نقول هذا رغم أن تشرذمات تبدو مماثلة حدثت في البلقان وآسيا الوسطى بعد انهيار الكتلة الشيوعية، لكن الحقيقة أن التماثل بين هذه الشعوب الأخيرة وبين شعوب الشرق اقتصر على كون التكوينات الحديثة كانت تعسفية مفارقة لحقائق الواقع، أما موقف المجموعات أو التكوينات الصغيرة من حضارة العصر وثقافته فجد مختلف، لذا استطاعت شعوب البلقان ومعها جمهوريات آسيا الوسطى بالكثير أو القليل من العناء الانضواء في تشكيلات جديدة تسعى الآن للحاق بما فاتها من العصر، ورأينا كيف انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى كيانين بيسر وسلاسلة جديرين بالدهشة والاحترام، بل وقد نرى في سبتمبر من العام القادم انفصال سكوتلاندا عن بريطانيا العظمى بذات قدر السهولة والديموقراطية فائقة الروعة.
التنوع إذن في الشعوب ليس نقطة عجز أو عامل ضعف، بل قد يكون مصدر ثراء وثروة حضارية، هذا إذا ما كانت المكونات قادرة على تجاوز دوائر التخندق البدائية، والتقدم إلى آفاق جديدة، كما أن المسألة ليست أمر تجمعات كبيرة أو صغيرة، أو أمر وحدة مقابل تقسيم، فالتقسيم الذي تدفع إليه حقائق الواقع المادية، وليس فقط مجرد الكراهية العمياء والعجز عن التفاعل البناء والخلاق، قد يكون عامل قوة لأطراف الكيان المنقسم، والعكس صحيح حين يكون التفتت ناجم عن العجز عن الانضواء في تكوينات حديثة متحضرة، وذلك بدافع التخلف الثقافي والسلوكي الحياتي. . quot;الاتحاد قوةquot; حين يكون بين مكونات مؤهلة للتوافق، فيما يكون quot;الانفصال قوةquot; بين المكونات المتنافرة القادر كل منها على القيام بذاته، لكنه يكون ضياعاً إذا ما كانت العناصر المتنافرة مجرد ذرات وفسيفساء بلا ملامح ولا مقومات للحياة المستقلة.
سألني صديقي الشاب شديد الغيرة على الوطن والحماسة لأهله إن كانت مصر مهددة حقاً بالتقسيم، أجبته أن الحالة المصرية ألعن من هذا وأشد بؤساً، فمصر ليست كدول أخرى أشبه بتوائم ملتصقة تجد الحل السعيد في فصلها، لكن مصر جسد واحد لا يمكن تقسيمه إلى أياد وأرجل ورأس وبطن، هو كيان واحد مهدد الآن بالتحلل ونهش الديدان والذئاب في لحمه.
على هذا النحو نجد الإخوان المسلمين الآن يمارسون هيمنتهم على مصر ليس بمنطق حكام دولة حديثة ينتمون لشعبها، ولكن بمنهج قبيلة مباركة تمكنت من غزو أراض شعب كافر بعض منه ملعون، لذا فما يحدث في مصر الآن ليس محاولة من الإخوان المسلمين لإدارة البلاد باعتبارهم جزءاً عضوياً منها، وإلا لاستعانوا في إدارتها بالعناصر القادرة الكفوءة بغض النظر عن انتماءاتها السياسية، ولكن التوصيف الأدق هو quot;استباحة البلادquot; باعتبارها غنيمة غزو يحق لهم نهب ما شاءوا من خيراتها ومقومات حياتها، رغم هذا فإن الإخوان باعتبارهم بيولوجياً وحضارياً جزءاً من الشعب المصري، فإننا نلحظ أن المنهج الإخواني لإدارة البلاد، والذي يظهر في طريقة تشكيل الوزارات هو منهج مصري صميم، ولقد ذكرني بمحاولات مصر استضافة كأس العالم 2010، فلقد اعتمدنا على التهريج والأونطة، وعزفنا عن طريق التأهيل المناسب للبلاد، فكانت النتيجة أن حصلنا على quot;صفر كبيرquot; من لجنة المونديال، ونحن الآن في طريقنا لنأخذ quot;صفراً كبيراًquot; أكثر دراماتيكية ومأساوية في سائر مناحي حياتنا. . نحن إذن كمصريين باختلاف انتماءاتنا ورؤانا السياسية والاقتصادية وغيرها نشترك في عجزنا عن استيعاب حقائق ومناهج العصر، فالمشترك الحضاري يمكن أن يجمع مكونات عرقية وثقافية مختلفة، ولدينا مثال لهذا في الاتحاد السويسري الذي يجمع بين أربعة شعوب تتحدث أربع لغات، علاوة بالطبع على المجتمع الأمريكي الأشبه بتكوين منظمة الأمم المتحدة من حيث التعدد والتنوع!!
هكذا لن يكون من الغريب مثلاً ما نلاحظه من روح الإصرار والتحدي في quot;مكتب الإرشادquot; الحاكم الفعلي لمصر الآن، بالإبقاء في التعديل الوزاري الأخير على الوزراء الذين تفاقم الغضب الشعبي عليهم لفشلهم وعدم جدارتهم، وإضافة من لا يتوقع منهم غير المزيد من الفشل، والمزيد من حكم البلاد وإدارتها بمنطق القبيلة الإخوانية التي غزت quot;مصر المحروسةquot;. . وإن كان إصرار الإخوان وعنادهم ميزة كبرى في نظر من يتعجلون سقوطهم، إلا أنه لأمر يدعو للحيرة في نظر البعض، إن كان الإخوان يدركون أنهم بلا جدارة ولا مؤهلات لحكم البلاد ويستمرون في التمكين طمعاً ولو على جثة مصر، أم أنهم لا يدركون ويعيشون في أوهامهم منبتة الصلة بالواقع، بل وربما فيما ننتظر نحن سقوطهم إذا ما خربت البلاد، يكونون هم من يعمل على خرابها لكي يتمكنوا منها تماماً. . عموماً من حسن حظنا أننا لا ندرك حقيقة ما نحن فيه، فأغلبنا يتصور كما لو كنا في كابوس سنستيقظ منه بعد سويعات لنجد الحياة وقد عادت حتى لسيرتها الراكدة الأولى، أو كما لو كنا نشهد فيلم رعب ولن تلبث أن تأتي كلمة quot;النهايةquot; تملأ الشاشة ثم تضاء أنوار الصالة. . هذا العجز عن استيعاب حقيقة الواقع المصري الراهن يعد ميزة كبرى تولد فينا الأمل بدلاً من اليأس القاتل.
التعليقات