لاأدَّعي الرفعة والرقيّ الاخلاقيّ في اوسع آفاقهِ فكلنا مزيج من القسوة والشرور تخالطها الطيبة والحنوّ الانسانيّ لكني أقولها صادقاً من اعماق نفسي ؛ لأول مرة تمنيت ان اموت ولا ارى صورة الطفل الصغير quot; محمد quot; يموت من الصقيع والبرد في مخيم الزعتري الذي لجأ اليه مع اسرته هاربا من جحيم الحرب في سوريا ليجد نفسه في زمهرير الثلج، وقديما كنا نهرب الى النار كي نستجير بالرمضاء، لكن عصرنا الجديد أبدل اثوابه الحمر بحلّةٍ بيضاء توحي بالبراءة والطهر فصار العذاب ابيض ونسيَ لونَ النار الاحمر الحارق.

هذا الزمن الوغد مخادع ايضا ؛ انه كالحرباء يبدّل ألوان عذاباته ويُظهر لنا غير ما يبطن وأصبحنا نخاف حتى من بابانوئيل ذي اللحية البيضاء الناصعة التي توحي بالأبوة والحنان والرعاية لكنها هي الاخرى غيّرت مظهرها واصبحت مكيدة للايقاع بنا وقتلنا مثلما كانت لحى بعض رجال الدين الماكرين الذين اوقعونا في مهالك ونزاعات وحروب طائفية يصعب الخروج منها على الاقل في الوقت الحاضر.

الماريشال حرب هو الاخر احرق سوريا ودمّر اهلها بين قتيل ونازح وباقٍ يقاسي ضراوة الحرب ولا يدري متى يدفن في قبره اذا كان ذا حظٍّ عظيم، ان لم يكن قد يحترق بغمضة عين في اتون صاروخ يقع عليه وعلى أسرتِه ويحرق جسده ويحيله رفاتاً ورمادا متطايرا.

يأتي الان دور الجنرال شتاء ليستعرض عضلاته ويهجم هجمات شرسة على ضعاف الناس والموجوعين والهاربين من الويلات وينافس صديقه المارشال حرب في حصد اكثر عدد ممكن من ضحايا السكان السوريين
لم يكتفِ هذان الماردان من تمزيق اجساد الضحايا الصغار وتشتيت الشعب السوري وشرذمته في دول الجوار وغير الجوار حتى بلغ عدد النازحين يفوق المئة الف نازح في مخيمات بائسة في الاراضي التركية وفي عرسال اللبنانية وكردستان العراق وصحراء الرمادي وزعتري الاردن بل رأيت بأم عيني على شاشات التلفزيون شيخا هرما مضطجعا على الارض اسمه quot;محمد قعدان quot; جمدت اوصاله من البرد ونزعت روحه الى السماء ولا قبر يحتويه سوى الثلج والزمهرير الذي عصفت به السيدة اليكسا الآتية من سيبريا الروس، فالرجل العجوز اراد ان يستجير بالزمهرير هربا من نار اهله لكن الموت كان يرقبه فلحق بحفيده الطفل quot;محمدquot; الى ملكوت السماء طالبا اللجوء اليها بعد ان لفظته ارضنا التي كانت حنونا يوما ما وغدت الان اكثر قساوةً من حجر جبل قاسيون.

دعك من الحرب فكلنا يعرف ماتقيء من موتى وأرامل وأيتام وماتحدثه من كوارث لاتطاق لشعوب ربما لاناقة ولاجمل لهم في سعيرها ولاعنْزٌ ولاحمَل في استمرارها لثلاث سنوات دون اية بارقة امل في انتهائها مادام هناك من لهم مصلحة في اشتداد اوارها وإبقائها كي تحرق الاخضر واليانع، لكن الغريب ان يقف المال العربي الوفير ساكتا ولايحرك ساكنا ليقف بوجه البرد ويوفر مايمكن توفيره من اغطية ومدافيء وخيام وبطانيات ويفتح الطرقات المليئة بالثلوج المؤدية الى تلك المخيمات اذ يمكن ان تخفف عبء هذا الزمهرير الشديد القاسي القلب.

وكم كنت سعيدا رغم كل تلك الاجواء المحزنة حينما سمعت بوجود حملة تبرعات فردية قام بها الشباب واصحاب الضمائر الحية من بسطاء الناس وعامّتهم لتقديم ماتجود به ايديهم من مال للمساهمة في التخفيف من هول الكارثة التي أرعبنا بها الجنرال شتاء دون ان تكون للدول العربية وغير العربية ايّ دور في هذه الحملة مع ان الفتق واسعا ولايمكن رتْقهِ الاّ بإمكانيات ومساعدات دولية كبيرة ولكن المغزى الفردي لهؤلاء المبادرين له دلالات اخلاقية سامية قد لاترقى اليها الدول الصامتة المكتوفة الايدي خاصة اذا عرفنا ان هناك مايربو عن 45 الف طفل مازال تحت رحمة البرد وينتظر من يسعفهم ويبعث الدفء فيهم ناهيك عن بقية المقيمين بالمخيمات في عرسال والزعتري والعراق والاراضي التركية المحاذية لسوريا والذين يعانون ايضا كوارث الطبيعة الغاضبة وصقيعها القاتل.

لنكن بمعزل عن الآراء السياسية واختلاف في وجهات النظر بشأن الحرب ومسبباتها وننأى عمّن كان المسبب في اشعالها ودوامها لكننا امام كارثة طبيعية وعلينا ان نقدّم كل مابوسعنا للتخفيف من هول الكارثة وابداء المزيد من المساعدات المادية وغير المادية شعوبا وحكوماتٍ دون النظر برؤى ضيقة ونكيل اللوم والاتهامات الى طرف دون آخر فامامنا شعب يرزح تحت النار والزمهرير وعلينا اسعافه وتقديم ما بوسعنا تقديمه والاّ نستحي من اعطاء القليل فالحرمان أقل كثيرا من تقديم القليل كما يقال.


[email protected]