يسمي البعثيون انقلابهم الدموي في 8 شباط من عام 1963 عروس الثورات، رغم أنهم سفكوا فيه دماء آلاف الرجال والنساء، وعرضوا الكثيرين منهم، وغيرهم لاغتصاب وانتهاك للأعراض، وللتدمير الروحي!
ويصفه الشيوعيون ضحاياه الرئيسيون بالردة، والثورة المضادة، والمؤامرة!

كان الانقلاب، طبخة مسمومة تضافرت قوى كثيرة لطهيها: شركات النفط،المخابرات الأمريكية، والدول العربية الرجعية، مراجع دينية داخلية وخارجية رجعية وقومية، عربية وكردية وتركمانية!
لا خلاف أن ما حدث كان جريمة شنعاء لا تغتفر لمرتكبيها، رغم إنه جاء ضد عهد نتج عن انقلاب غير شرعي أيضاً! ولكن هل هذا كل شيء؟
زمن تحالف الشيوعيين مع البعثيين في السبعينات، كانت أكثر المناسبات احراجاً للشيوعيين، هي ذكرى انقلاب شباط، فبينما كانت السلطة تحتفل به وتردح اذاعاتهم بالأناشيد والقصائد ويوزعون الحلوى ويطلقون الصعادات، كان الشيوعيون في وجوم، يجهدون في جريدتهم لاختيار أكثر الكلمات مناسبة تعبيراً عن بعض مشاعرهم إزاء الانقلاب؛ وبنفس الوقت، لا تغضب حلفاءهم البعثيين، وفي النهاية كانت تنتهك الحقيقة، والعلم، تحت ضغط التجاذبات السياسية!

منذ خمسين عاماً، كل طرف يقدم تقييمه لما حدث من زاويته ومصلحته، والجميع يسكتون ويتجاهلون الزاوية التي يقف بها العراق، وطنهم، والضمير الإنساني؛ لينظر إلى ما حدث، وإلى مسار التاريخ كله؟
لا أحد منهم، يتطرق إلى تفاصيل العهد، أو حقبة الخمس سنوات التي أنبثق منها الانقلاب الإجرامي البعثي.

يتجاهلون كل حقائقه: الانقلاب العسكري الدموي الذي حدث في 14 تموز 1958، الذي حتى الآن يسميه الشيوعيون بالثورة المجيدة الخالدة، رغم ما تكشف عن أن المخابرات الأمريكية لم تكن بمنأى عنه، وأنها كانت على علم به، وباركته، حيث لها رجال في ما يسمى بتنظيم الضباط الأحرار( كشف منهم صالح مهدي عماش). كانت رؤيتهم أن هذا الانقلاب سيزيح النفوذ الانجليزي؛ فيحل الأمريكان محله، وهذا ما حصل فعلاً!!
قتل الانقلابيون الأسرة المالكة رغم استسلامها، وسحلت جثتا الوصي ونوري السعيد ( وقيل ابنه أيضاً) في الشوارع، حيث علقتا على شرفات الفنادق، الغاء الدستور الوطني الحضاري، واستبداله بما يسمى الأحكام العرفية، و15 عشر مادة مبتسره متعجلة سميت بالدستور المؤقت، اقامة عبد الكريم قاسم زعيم الانقلاب في ثكنة وزارة الدفاع لينفرد فيها بإدارة شئون البلاد، متبختراً، ببزته العسكرية، وخطبه التي كان يصل بعضها إلى ست ساعات، لا تني الإذاعة تعيدها كل يوم، وكل ساعة، تفاقم مزاجه المتقلب، وضيق افقه السياسي والفكري، اقدامه وتراجعه...كل ذلك مقابل اصداره قانون الإصلاح الزراعي الذي لم يلبث أن خضع فيه لمقاومة الإقطاعيين، ثم تراجع عن تطبيقه شيئاً فشيئاً، بعد خراب الزراعة كلها، ونزوح مئات آلاف الفلاحين إلى المدن، والخروج من منطقة الإسترليني الذي اثبت كثير من الاقتصاديين المرموقين، أنه اضر بالاقتصاد العراقي، ولم ينفعه، وتنفيذ مشاريع اسكان وعمران كانت أصلاً معدة من قبل مجلس الإعمار الملكي، وقانون النفط الذي كان شكلياً أكثر منه عملياً!

انبرى الشيوعيون لاحتضان حكم قاسم، مبرزين ما كان، وما لم يكن له من حسنات، مشيحين عن سيئاته الكثيرة والخطيرة!
تجاهلوا إنه حاكم عسكري فردي يجنح يوما بعد آخر للدكتاتورية! وصار همهم مشاركته السلطة، أخرجوا له المظاهرات الهائلة تهتف quot;حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي!quot;.كان وجود الوزيرة نزيهة الدليمي في الثكنة، يعني بالنسبة لهم ما يعنيه وجود الملاك في بيت الشيطان، الذي سيجعله يلقي نفسه من النافذة!

أعادوا نفس مأساتهم مع بكر صدقي في انقلابه الدموي أيضاً عام 1936حين أيدوه؛ رغم علمهم إنه ضابط أهوج متعاطف مع النازيين، وإن حكم العسكر لا يفضي؛ سوى إلى مزيد من الطيش والجنون!
ثم أعاد عبد الكريم قاسم؛ نفس موقف بكر صدقي معهم، حين استمتع بتأييدهم، ثم راح يلاحقهم ويضع من يمسك منهم في السجون!
الجواهري الذي صار شاعرهم، بعد أن كان شاعر الوصي ونوري السعيد،اختصر الثقافة كلها بنفسه، دونما جدارة، أو تعقل، وأعاد مع قاسم نفس حكايته مع بكر صدقي، وخاطبه بنفس الأبيات التي خاطب بها صدقي:
اقدم فأنت على الأقدام منطبع وابطش فأنت على التنكيل مقتدر
فضيق الحبل واشدد من خناقهم فربما كان في ارخائه ضرر
شاعر يحث الحاكم على البطش والتنكيل؛ كيف لا ينقلب الشعر على الشاعر؟
فما كان من قاسم الا وكرر موقف صدقي منه، لم يضعه في السجن ؛ دفعه إلى المنفى!
تجاهل الشيوعيون قضية الديمقراطية تماماً!

هم يرون أن معيار الديمقراطية؛ هو وجودهم على سطح الأرض، وليس في السراديب، حتى لو كانت الفسحة التي يقفون عليها هي بحجم ملعب لكرة المنضدة، أو خطة الحفار لحفر قبر!
كامل الجادرجي، وعبد الفتاح إبراهيم وغيرهما من الجناح المتحرر من الحزب الوطني الديمقراطي وبقايا جماعة الأهالي، رفضوا المناصب الوزارية التي عرضها عليهم، كانوا قد اكتووا بتجربتهم القاسية والأليمة مع بكر صدقي، والعقداء الأربعة اصحاب رشيد عالي الكيلاني، وظلوا ينادون بضرورة إشاعة بالديمقراطية، والفكر الحر، ويطالبون قاسم بالعودة إلى موقعه العسكري، وتسليم السلطة للشعب؛ عبر انتخابات وطنية نزيهة، لكنه ظل يماطل ويرفض، حتى آخر لحظة!

خاصمهم الشيوعيون واتهموهم كعادتهم بالخيانة والعمالة، ثم طفقوا يسمون أنفسهم حتى اليوم بالمرجع الأول للديمقراطية!!!
شارك الشيوعيون بصنع كل سوءات وعاهات قاسم وشاركوا معه في كل تخبطاته وسوء إدارته للبلاد. لم يكن جوهر معارضتهم له تخليص البلاد من الحكم العسكري، وتحقيق ديمقراطية صحيحة، بل أخذ حصتهم من كعكة العسكر الفاسدة، ما كانوا يدركون أن العسكري، قد يمتلك شجاعة أدارة ماسورة الدبابة إلى قصر الحاكم، لكنه لا يمتلك شجاعة العقل، ورحابة الصدر، فيدرك حدوده وقدراته، ويتراجع إلى موقع المهني والجندي، مسلماً قيادة البلاد لأهل العلم والخبرة والحكمة!

راح الزعيم يضيق الحبل على الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين، وكل من يعتقد إنه ينافسه على سلطته، فقد ركبه رهاب وخوف من كل منافس ومعارض!
غض الطرف عن جرائم كثيرة كانت ترتكب في عهده، ما دامت لا تهدد كرسيه، سكت عن جرائم القتل والاغتيالات التي طالت آلاف الشيوعين وغيرهم بأيدي شقاة ومأجورين من قبل قوى قومية وبعثية ورجعية مختلف متذرعين بجرائم ارتكبها بعض الشيوعيين إبان شهر العسل الذي جمع قياداتهم مع قاسم!

طاب للشيوعيين وعلى مدى نصف قرن أن يقدموا انفسهم كضحية فقط لا غير، لم يتحملوا جرأة أن يقولوا كم شاركوا مع الجلاد في جريمته، خاصة عبد الكريم قاسم نفسه الذي اعتقد أن ثورته الهوجاء تمنحه الحق في حكم العراقيين وفق هواه ومزاجه وابتساماته النرجسية!

الشيوعيون يقولون أن البعثيين أتوا للبلاد بقيم الهمجية وسفك الدماء والدكتاتورية، وهذا صحيح فهم تعلموا من هتلر والنازية الشيء الكثير، ولكن بنفس الوقت كم في وعي ولا وعي الشيوعيين من تراث ستالين، ودكتاتورية البروليتارية وطرائق السوفيت في الحكم، خاصة نزعات العنف والقسوة ومحو الآخر والغائه، والتسلط على الناس بأيدلوجية مغلقة مقدسة؟
لقد كان قادة البعثيين قتلة وسفاحين ومجرمين دون أدنى شك، ولكن هل كان قادة الشيوعيين أبرياء منزهين عن الأخطاء والخطايا؟
سيقولون كيف يتساوى الضحية والجلاد؟ ولكن لا ينبغي تجاهل جناية الضحية بذريعة أنها لم تبلغ حجم جنايات الجلاد!
يجب أن يقف الجميع أمام منصة العدالة والحقيقة!

لقد اقترف الشيوعيون جريمتهم بحق أنفسهم وبحق من ناضل معهم،او حولهم؛ فكان أن ساهموا في جر البلاد إلى هاوية البعثيين وحلفائهم، التي اوصلت البلاد إلى الاحتلال!
وضعوا كل حيثيات القضية وكل بضاعة ذلك العهد في القطار الأمريكي الذي تحدث عنه علي صالح السعدي!

لكن هذا لم يعد مقنعاً، خاصة بعد أن جلس سكرتير الحزب الشيوعي الحالي، مع أكثر من وزير أو نائب في البرلمان متكئين على دبابة بول بريمر، هم مطالبون اليوم بشجاعة العقل والقلب التي ظلت قيادات الحزب الشيوعي تمارسها على شكل مواساة وكلمات عزاء وعبارات فضفاضة: ليقولوا ماذا كان دورهم في ما جرى على العراق من نكبات وويلات وكوارث، وأن يكفوا عن وصم كل من يخوض في تاريخ البلاد الذي يتقاطع معهم، بنعوت نابية وحملات تهويش، وحصار وإرهاب فكري!

جريمة 8 شباط انبثقت من جرائم 14 تموز وما تلاها من تجاوزات وانتهاكات، وتجاهل لضرورة البناء الدمقراطي، وتسليم الشعب العراقي حقوقه؛ ليسوس نفسه بعيداً عن وصاية العسكر، والأحزاب التي تتحالف معه.
لم يعد مقبولاً بقاء جثة 8 شباط ممتنعة على التشريح، وإذا جاء من يشرحها أخفوا نصفها في الثلاجة، وعرضوا نصفها الآخر محاطا بالضجيج والصخب والعويل!

ليس الشيوعيون وحدهم بحاجة أن يعوا دروس تلك الحقبة بشجاعة وعمق ووضوح، العراقيون جميعهم بأمس الحاجة لوعيها وتمثلها! ثمة كتاب طائفيون يطبلون للمالكي بحجة أنه عبد الكريم قاسم جديد ينبغي الحفاظ على تجربته بأي شكل. هؤلاء مصيبون، في أن المالكي يحمل بعض خصال قاسم: فهو يطمح مثله للانفراد بالسلطة، ويعاني مثله من رهاب النقد والمعارضة، ويخاف من ظله إذا تهيأ له على هيئة متآمر، ويهرب من الاستحقاق الديمقراطي ما امكنه ذلك، ولكن هؤلاء الكتاب يتجاهلون أنهم بذلك يضرون المالكي ولا ينفعونه، حين يتجاهلون أن الدكتاتورية تصنع خصومها الشرسين المحتقنين بالعنف والضغينة، والذين لا بد أن يتفجروا بشكل من الأشكال، وحكمة الناس تقول أن من يزرع الريح، لا يحصد غير العاصفة!