مما قاله ديجول: quot;السياسة هي من الجدية بحيث لا ينبغي تركها للسياسيين!quot;
وما يعنيه هنا هم محترفو السياسة، الذين يغلبون حساباتهم السياسية [أيا كانت طبيعتها] في مواقفهم وسياساتهم.
أما رجل الدولة الديمقراطي، فهو أيضا سياسي، ولكنه يرى نفسه مقيدا بموازنات الواقع ومتطلباته، وذلك مهما كانت معقدة ومؤلمة، ومهما كانت المواقف التي يتخذها غير شعبية.
تشرشل لم يعد البريطانيين خلال الحرب الدولية الثانية بانتصار سهل وسريع، بل صرح علانية: quot;ليس لي ما أقدمه غير العرق والدموعquot;. أما تشمبرلن، فقد عاد من ميونيخ مدغدغا المشاعر السلمية للمواطن، مبشرا بسلم دائم تبين زيفه بالعدوان النازي، فانهارت الأوهام.
رجل الحسابات السياسية قد يخفي الحقيقة إن كانت مرة، باحثا عن شعبية مهما كانت مؤقتة، مدفوعا بنزعة شعبوية وهوس تملق الجماهير وكسبها. أما رجل الدولة، فيصدم الجماهير بالحقيقة، ولا يعطي وعودا جزافية لمجرد الترضية ودفع الضغوط.
رجل الحسابات السياسية، إن تسلم منصبا رفيعا في الدولة، يعمل على إحاطة نفسه بالبطانة والمتملقين، ووعاظ منافقين، ودعاة يزيفون الحقائق ويزينون الخطأ ويشوهون الرأي والموقف المخالفين. أما رجل الدولة الديمقراطي، فلا يجد حرجا من الاعتراف بالخطأ والإقرار بصواب الرأي المعارض وتشجيع النقد؛ ذلك لأن معياره الحاسم هو المصلحة العامة لا المصالح والحسابات الضيقة، حزبية أو شخصية أو فئوية أو مذهبية. وهو قد يعرض نفسه لزوبعة سخط عامة الناس الذين يريدون من الحاكم منجزات تنهمر عليهم بالبركات وفي أقل وقت مهما كانت الظروف قاسية والإمكانات محدودة. وخلافا لرجل الحسابات السياسية الخاصة، لا يبحث عن كبش فداء للأخطاء، ولا يفتش عن quot; مؤامراتquot; خارجية، أو سايكس بيكو جديد!
رجل الدولة الديمقراطي يستقيل عندما تقترف في أيامه أخطاء جسيمة ولو لم يكن هو شخصيا مقترفها، حيث أنه يشعر بمسؤوليته كحاكم للبلاد. ورجل الدولة يذهب تلقائيا وبإرادته إلى الشعب أو البرلمان ليشرح ويفسر- بلا تزويق ومراوغة أو إلقاء المسؤولية على الآخرين- ما جرى وما يجري من وقائع وأحداث هامة في البلاد؛ أما رجل الحسابات السياسية، [حزبية أو طائفية أو شخصية]، إن كان هو الحاكم الأول، فيعتبر استجوابه نهاية البلاد والعالم!- وذلك حتى إن كانت سياساته ومواقف معاونيه تتحمل المسؤولية الأولى عن السلبيات القاسية، وإن وصلت لانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان أو لنهب المليارات من أموال الشعب.
في أيامنا العربية يندر وجود رجال دولة quot; على قد المقامquot;- كما يقولون، ولكن العالم العربي مغمور برجالات الحسابات السياسية، الذين يسايرون الشارع وإن كان على ضلال، فإذا ظهرت وصدمت العواقب الوخيمة لتلك المواقف، فقد يغيرونها ولكن دون أي نقد ذاتي. ومنهم هؤلاء الذين بشروا بالديمقراطية والربيع، فإذا الحصيلة دكتاتوريات جديدة وشتاء اسود.
إن الشجاعة الأدبية ونكران الذات من خصائص رجل الدولة الديمقراطي، الذي يظل، إن صعد للسلطة، محتفظا بالمستوى العالي من الشعور بالمسؤولية السياسية والأخلاقية. أما محترفو الحسابات السياسية، فقد ينقلبون على أنفسهم رأسا على عقب إن صعدوا في ظرف ما إلى السلطة، وتسلموا المقاليد، فينطبق عليهم قول المثل الإنجليزي: quot;إذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان، فأعطه مالا أو سلطة.quot; ويقول علي الوردي: quot;صديقك الذي تستعذب حديثه، وتستطيب مظهره وأدبه قد يكون من أظلم الناس إذا تولى زمام الحكمquot;. وحدث أن ساسة عراقيين كانوا يواصلون الشكوى من اضطهاد طائفتهم، ويعتبرون أنفسهم ممثلين لها، سرعان ما كشفوا عن أنفسهم، حين تسلموا السلطة، عن محترفين للظلم والاضطهاد واجتثاث الآخر- أي أعادوا إنتاج ممارسات وعقلية الجلاد الذي طالما تشكوا منه، وربما تفوقوا عليه!! وهنا تحضرني قصة شيخ القرية المدعو [شعيْط ] وولده [معيْط]. كان شعيط يلزم الناس بشراء أكفان الموتى من دكانه، وفي الليل ينبش القبر ويسرق الكفن لإعادة بيعه. ومات ملعونا من أنل القرية، الذين استقبلوا خليفته معيط بالهلاهل والهتافات quot;بالروح .. بالدم....quot; وما أن استقرت الأمور لمعيط، حتى لم يكتف بالنبش والسرقة، بل كان أيضا يدخل خشبة صغيرة في شرج الميت. فراح الناس يدعون مع أنفسهم quot;رحمك الله يا شعيط!quot; وكل quot;ربيعquot; إسلامي وأنتم بخير!