في منتصف القرن الماضي أصدر داعية السلام واللاعنف السوري جودت سعيد كتابه quot;مذهب ابن آدم الأولquot; (1964) وكان بمثابة أول إعلان من نوعه عن قطيعة بين الإسلام والفكر الجهادي العنيف، وكان أيضا إعلانا لولادة فكر متحرر من أغلال العنف. فالطغيان يستحكم بالعنف، والعنف لا يؤدي إلا لاستقرار الأوضاع والحكم بين يدي طاغية عنيف. واستمر جودت سعيد بعد ذلك في تطوير مذهبه الجديد من خلال عدة كتب ومقالات، وهو يراقب بحذر تفجر العنف في كل مكان. لم تكن كتاباته لتجنب العالم الإسلامي هذه العدوى المميتة، ولم تكن لتجد لها آذانا صاغية.
لم يكتب جودت سعيد فكرا مستكينا، بل كانت أفكاره دعوة للتغيير والنهضة. وكانت دعوة للثورة على الفكر التقليدي وعلى الفقه البدوي العنيف وعلى الاستبداد. لذلك ربما لم تجد لها صدى كبيرا في العالم العربي طيلة ستة عقود من الزمن، لأننا لم نصطدم بعد بجدار الحداثة والتقدم كما يجري الآن.
بالإضافة لجودت سعيد، كرس المفكر السلامي واللاعنفي السوري خالص جلبي قلمه وفكره لنشر مذهب اللاعنف منذ أكثر من أربعين سنة (quot;جدلية القوة والفكر والتاريخ، 1999quot;؛ quot;سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي، 1997quot;). وهو يعتبر نفسه تلميذا لجودت سعيد، بل يعتبره سبب نقلته النوعية التي حققها في الفكر أو ما يسميه quot;ولادته الجديدةquot;. وهو ليس بعيدا عن جودت سعيد، بل يعد الأقرب والأكثر اطلاعا على فكره والأكثر استيعابا وإيمانا بما كتبه جودت سعيد في اللاعنف وفي نقد فكر ومذهب العنف.
وكليهما من سوريا. وسوريا عاشت تحت الطغيان وانتهت مدمرة بأشد أعمال العنف فتكا وكأن التاريخ يمكر بنا وبفكرنا أيما مكر.
لا حظ لنبي في وطنه. قولة مأثورة ! أو ربما هي أكثر من ذلك قانون يسري على البشر. لكن متى استفاد العرب من فكر محليا كان أو مهاجرا؟
ينطبق هذا تماما على اللاعنف وأفكار المقاومة المدنية. قبل السورِيَّين جودت سعيد وخالص جلبي، كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي، وهو بشكل أو بآخر من أوحى لهم بأفكارهم حول التغيير واللاعنف، عن اللاعنف. بل وضع مالك بن نبي كتاب كاملا بعنوان quot;الفكرة الأفريقية الأسيويةquot; (1954) ينظر فيه لبناء محور للسلام في العالم، يكون العالم الإسلامي محوره الأساس.
كما أنشأ لاعنفيون سوريون ولبنانيون مشروعا تنويريا هائلا بعنوان quot;معابرquot; (maaber.org)، نقلوا من خلاله نصوصا وكتبا ودراسات مؤسسة للاعنف والمقاومة المدنية. بل ترجموا قاموس اللاعنف للفيلسوف اللاعنفي الفرنسي المعاصر quot;جان ماري مولرquot; ووضعوه رهن إشارة القراء في موقعهم، كما فعلوا بكل النصوص الرائعة التي ترجموها بمجهوداتهم الذاتية وبشكل تطوعي.
أنا مدين لمالك بن نبي وجودت سعيد وخالص جلبي ولمشروع معابر في اطلاعي على مذهب اللاعنف، وعلى استيعابي الذي أزعمه، لهذا الفكر. كما أدين لهم أيضا بتعرفي على عدد كبير من الأسماء اللاعنفية عبر العالم وعلى قراءاتي لعدد من النصوص الهائلة والمؤسسة لفكر اللاعنف والمقاومة المدنية.
ومدين للاعنفيين برفضي المستمر للظلم والاستبداد. فما كدت أتخلص من مشكلة العنف حتى تخلصت من العبودية، ورجوت أن تكون حياتي هي الحرية. لقد نزع اللاعنف الخوف من قلبي. ولم يحكم الديكتاتوريون الناس يوما سوى بالخوف الذي يبثونه في قلوبهم وبكل الوسائل. لكن اللاعنف هو من خلصني من ذلك وقلب معالم فكري رأسا على عقب.
كانت سوريا مهدا حقيقيا للاعنف في العالم العربي. لكن الاستبداد كتب لها تاريخا آخر، ومصيرا آخر. فلم يبق حجر على حجر، وكل بيت أصبح بيت عزاء. بل دفن الآباء أبناءهم وسبق الأصحاء المرضى إلى الآخرة.
هل فشل اللاعنف في سوريا؟ أم أن التاريخ باغت الأمة قبل أن تنضج أفكارها؟ لكن، ماذا كنا ننتظر كل هذا الوقت الطويل كي لا نقرأ هذا الفكر ليوم الحساب مع الطغاة؟
دخلنا كهف التاريخ منذ سقوط غرناطة (2 يناير 1492). لم يعد يسمع لنا صوت. غادرنا مسرح الأحداث كأية أمة خرجت منه للأبد. لكن التاريخ صدمنا بثورة غير متوقعة فبدأ سقوط الديكتاتوريات بأسرع مما يتوقع أي متفائل، في مشهد ناذر من الثورة، ومن التحرر من الخوف الجماعي، ممتدا من المحيط إلى الخليج.
إن التاريخ يعلمنا درسا كبيرا؛ ليس هناك من سبيل للمستقبل أمامنا سوى بتوديع حقبة الديكتاتورية. لقد تعايشنا معها من أجل شيء من الأمن والخبز. خوفا وطمعا. لكن ورَّثتنا الموت والجوع والدمار.
وفي سوريا كان الواقع مرا. سيترك الديكتاتور وراءه بلدا مثقلا بالجراح والشهداء على عصرهم. سيورث للسوريين خراب المدن وضياع الممتلكات وفقدان الأقارب والأحبة. فهو يأخذ البلد الآن للخلف في اللحظة التي اختار فيها الناس أن يتقدموا ببلدهم للأمام.
وربما ورثهم مستعمرا جديدا ومتطرفين متشددين مسلحين. ما الذي يستطيع ديكتاتور أن يورثه لك غير هذا. ولو مات في سلام لورثك ربما ديكتاتورا أكثر تعنتا وأكثر دموية. إن الديكتاتور لا يموت بسرعة، فخرابه يعم الأرض وإرثه يبقى شاهدا على حكمه وفعله، ليكون لمن خلفه آية.
في سوريا، وفي كل بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ربما quot;جاءت الثورة قبل اللاعنفquot; أو ربما quot;تأخرنا في تعلم أبجديات المقاومة المدنية قبل أن تأتي الثورةquot;. إني أنظر لتاريخنا الطويل مع الطغاة وأتشبث بالفكرة الثانية، لقد تأخرنا كثيرا في التعلم.
التعليقات