يوحي مجمل الحراك السوري حتى الآن بأن أكراد سوريا هم المستفيد الأكبر من ما جرى، إذ يبدو وكأنهم أمام فرصة تاريخية لتحقيق آمالهم وتطلعاتهم القومية، بعد سيطرتهم على مناطقهم بطريقة سلمية، وبناء ما يشبه حكم ذاتي في هذه المناطق،لكن في حقيقة الأمر هذه الصورة الزاهية ليست أكثر من صورة مؤقتة في سياق الحدث السوري العام، فهذه الصورة الزاهية للحالة الكردية تهددها جملة من المخاطر، منها ما هو داخلي يتعلق بالمصير الذي ينتظرهم في ظل عدم وجود اتفاق على هذه الحقوق مع القوى السورية الأخرى، ومنها ما هو إقليمي ، وتحديدا تركيا التي تنظر بعين الخشية لأي حكم محلي لأكراد سوريا، وتتخوف من أن يعزز مثل هذا الحكم مطالبة الأكراد في المنطقة (العراق، تركيا، إيران ، سوريا) بإقامة دولة قومية مستقلة، حيث ترى تركيا أنها ستكون المتضرر الأكبر منها، وعليه ثمة من يرى أن تحقيق أكراد سوريا لتطلعاتهم يرتبط بانتهاج العقلانية السياسية، سواء لجهة الممارسة السياسية أو طرح المطالب الواقعية المقبولة.
هذا الواقع الجديد فرض على أكراد سوريا جملة من التحديات المتمثلة فيما يلي:
1- مواجهة الاحتياجات اليومية للسكان من مواد غذائية ووقود ومحروقات (الغاز المنزلي، المازوت، البنزين..)، كل ذلك في ظل شح الموارد والإمكانات، وقد وجد أكراد سوريا في إقليم كردستان العراق المجاور ملجأ لتخفيف حدة أزمتهم الإنسانية.
2- الخلافات المتعددة بين أطراف المكوّن الكردي، إذ ثمة خلافات كبيرة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعود في مرجعيته السياسية إلى حزب العمال الكردستاني، وأحزاب المجلس الوطني الكردستاني الذي يتخذ من أربيل مرجعية سياسية له، وقد حاول رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني احتواء هذه الخلافات من خلال احتضان الطرفين مرارا، وتشكيل اللجنة القيادية العليا من الجانبين والمنوطة بها الإدارة المشتركة للمناطق الكردية.
3- إشكالية العلاقة بين الأكراد والقوى المطالبة بإسقاط النظام السوري وتحديدا الجيش الحر وجبهة النصرة، وقد برزت هذه المشكلة إلى السطح عندما حاولت كتائب من الجيش الحر وجبهة النصرة السيطرة على مدينة رأس العين، وهو ما أدى إلى مواجهات دموية بين الجانبين، حيث يرى أكراد سوريا أن مناطقهم محررة وليس هناك من سبب يستدعي قدوم هذه الكتائب إلى هذه المناطق، خاصة أن ذلك سيعطي المبرر للنظام لاستهدافها، فيما يرى الجيش الحر أن هذه المناطق سورية كباقي المناطق الأخرى من البلاد، ومن حقه السيطرة عليها، ويكشف هذا الوضع الإشكالي الخطر معضلة التعايش والتعاون بين الأكراد والقوى المطالبة بإسقاط النظام، وإذا لم يحصل توافق بين الجانبين فان الصدام بينهم حتمي في المرحلة المقبلة. الا أنه وبالرغم من هذه الإشكاليات والمخاطر فانه للمرة الأولى منذ اتفاقية سايكس /بيكو التي قسمت المنطقة إلى دول بعد الحرب العالمية الأولى، كما قسمت الأكراد بين سوريا والعراق وتركيا، فان الحدود باتت مفتوحة بين المناطق الكردية في سوريا وإقليم كردستان العراق.وباتت المناطق الكردية في تركيا تشهد حركة تضامن غير مسبوقة مع أكراد سوريا وتطلعاتهم، إذ للمرة الأولى نشهد مظاهرات تضامنية تخرج في عدد من المدن الكردية في تركيا دعما لأكراد سوريا، فضلا عن تنظيم قوافل مساعدات غذائية وإغاثية لهم. وهكذا بات الحراك الكردي يفيض في الجغرافيا السياسية حلما قوميا يدغدغ مشاعر الأكراد من جديد بدولة مستقلة، كما حصل عقب الحرب العالمية الأولى عندما أقرت اتفاقية سيفر إقامة كيان كردي، وفي الأساس كانت الجغرافيا الكردية عاملا من أهم عوامل الصراع القديم في المنطقة، فكردستان تعرضت في المرة الأولى للتقسيم بين الدولتين العثمانية والصفوية عقب معركة جالديران عام 1514 التي انتصر فيها العثمانيون بقيادة السلطان سليم ياوز الأول على الصفويين بقيادة إسماعيل الأول، ثم تعرضت مجددا للتقسيم عقب اتفاقية سايكس/بيكو، ومنذ ذلك الوقت باتت الاتفاقيات الدولية عاملا كابحا للتطلعات القومية الكردية التي بقيت خامدة تحت رماد التاريخ والجغرافيا. لكن تصوير الأمور على هذا النحو لا يعني أن أكراد سوريا ذاهبون إلى المطالبة بالانفصال، أو أن الطريق إلى تحقيق مطالبهم باتت مفروشة بالورود، خاصة أن مطالبهم غير محددة، إذ إنها تتراوح بين من يطالب بالفدرالية (المجلس الوطني الكردستاني)، والإدارة الذاتية (حزب الاتحاد الديمقراطي)، والاعتراف بهم دستوريا، ومنحهم حقوقا ثقافية ولغوية، كما تطالب بها قوى أخرى.
في سياق التواصل مع أكراد الخارج، برز دور قيادة إقليم كردستان العراق كحاضن قومي لأكراد سوريا، سواء لجهة توحيد القوى والأحزاب الكردية السورية، حيث رعى مسعود البارزاني شخصيا العديد من الاجتماعات بين أحزاب المجلس الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، وانتهت بتشكيل الهيئة الكردية العليا المنوطة بها الإدارة المشتركة للمناطق الكردية،وقد حظيت مساعي البارزاني هذه بمباركة تركيا، لأهداف تتراوح بين احتواء حزب الاتحاد الديمقراطي، ودفع الأكراد إلى الانخراط في معركة إسقاط النظام السوري، وهو ما زاد من متانة العلاقة بين إقليم كردستان وتركيا، مقابل زيادة التوتر في العلاقة بين الجانبين وحكومة نوري المالكي.
وإلى جانب الرعاية السياسية، اتخذت حكومة إقليم كردستان العراق سلسلة خطوات عملية تجاه أكراد سوريا، كفتح معبر سيمالكا الحدودي حتى دون التنسيق مع السلطات السورية، واستقبال ما يقارب 80 ألف لاجئ كردي سوري وفتح مخيمات لهم، فضلا عن تنظيم حملة تقديم مساعدات مالية وغذائية ووقود ومواد تدفئة إلى المناطق الكردية، وهو ما شد أنظار أكراد سوريا وارتباطهم بأكراد العراق أكثر بوصفهم الأخ الأكبر الواقف معهم في محنتهم وسعيهم إلى تحقيق تطلعاتهم.
دون شك، الصراع الجاري في سوريا يتجاوز مسألة إسقاط النظام إلى البحث عن شكل الدولة السورية في المستقبل، والأكراد في تطلعهم إلى موقعهم المستقبلي في هذه الدولة يعانون من جملة إشكاليات وعقبات، فمن جهة ثمة إشكالية تتعلق بغياب الثقة، سواء بالنظام أو بالقوى المطالبة بإسقاطه، بل في كثير من الأحيان يبدو لهم أن النظام الذي مارس الإقصاء والتهميش ضدهم أرحم من المعارضة التي حشدت قواتها للسيطرة بالقوة على مدينة رأس العين وباقي المناطق الكردية، فظهرت صورة المعارضة لديهم مجرد مجموعات عروبية وجهادية لا تؤمن بحقوق الشعوب والأقليات والطوائف. وقد وحد الهجومُ على رأس العين الأكرادَ وزاد سعيهم إلى التسلح وتشكيل جيش كردي موحد للدفاع عن مناطقهم، ولعل ما يفاقم هذه المشكلة ويرشحها للصدام في المرحلة المقبلة هو تعثر انضمام المجلس الوطني الكردستاني إلى الائتلاف الوطني السوري، بسبب عدم الاتفاق على مطالب الحركة الكردية. وقد طرح هذا الموضوع إشكالية تأرجح الأكراد بين الوطنية السورية وبحثهم عن كيانية خاصة بهم.
وفي الواقع، فإن هذا التأرجح خلق إشكالية في الجهة المقابلة، أي لدى القوى المطالبة بإسقاط النظام، بين الخوف من أن يؤدي إقرار التطلعات الكردية إلى تعزيز خيار الانفصال لدى الأكراد،واتباع سياسة الغموض وتأجيل بحث المطالب الكردية إلى المرحلة المقبلة.
أكراد سوريا الذين يجدون أنفسهم بين عنف النظام وتجاهل المعارضة المطالبة بإسقاط النظام لحقوقهم ربما يأملون استثمار القتال الدائر بين الجانبين لفرض منطقة حكم ذاتي لهم، لكن الثابت أن مثل هذا الخيار سيواجهه في المستقبل استحقاق مصير الدولة السورية، وهم في تطلعهم هذا يبدون أمام خيارين، إما التفاهم مع من سيحكم سوريا على صيغة للحقوق الكردية وشرعنة هذه الحقوق دستوريا، أو الدخول في مواجهة قد تنجم عنها تطورات دراماتيكية مأساوية لا أحد يعرف كيف ستنتهي،وكيف ستكون تداعياتها على الأكراد ومصيرهم.
[email protected]
التعليقات