تتواصل المأساة الإنسانية في سوريا بصرف النظر عن الموقف السياسي من حراكها السياسي، الذي ما عاد يجادل في هويته وطبيعته، إلا مكابر أو أحمق أو مرتزق، ولا مجال للخوض في حججهم والرد عليها، مع اعتراف الأمم المتحدة بكون الأزمة السورية الأكبر والأطول والأخطر في تاريخ الأمم المتحدة، وربما تاريخ البشرية الحديث، مع حاجة 10 ملايين شخص للمساعدة العاجلة، ولجوء 1.6 مليون الى خارج البلاد، ونزوح نصف سكان سوريا ضمن البلاد، بعد أن لاقوا من معاملة الجيران والإخوة العرب ما لم يلقوه خلال حقب لجوء الآخرين إليهم، وتهدم البنى التحتية في سوريا تحقيقاً لشعار (الأسد أو نحرق البلد) (الأسد أو نهدم البلد)، كلها أمور تحيلنا إلى واقع بات الجميع يصدق فيه وجود مؤامرة كونية على هذا الشعب المسكين.
حتى وزير الخارجية الألمانية غيدو فيستر فيله، والذي تقف بلاده بحزم وعنصرية! إزاء ما يجري في سوريا، لا أدري كيف quot;فلتquot; منه تصريح غير دبلوماسي بالمرة، عندما برر تردد بلاده بتسليح المعارضة السورية، ومعارضتها لذلك في الاتحاد الأوروبي، وهي الدولة quot;المليئةquot; التي باتت تتحكم بمصير العباد الأوروبيين فضلاً عن غيرهم، قال حينها: quot;لا يمكننا أن نسلح المعارضة السورية، فبين صفوفها جماعات ليس هدفها النظام في دمشق فحسب، بل والقدس أيضاًquot;!! وهو تصريح أثار من اللغط والسخط ما حمل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تحاول quot;ترطيبquot; الأجواء بالقول: إن كل من لديه قلب يجب أن يقف إلى جانب الشعب السوريquot;، وحاولت تليين موقف بلادها من قضية التسليح بعد قمة الثماني التي بالغت فيها روسيا في عنجهيتها، ونقلت فيها ميركل عن بوتين quot;ليونةquot; في موقفه انعكست على سحب الموظفين العسكريين من قاعدة طرطوس السورية. أما عن سبب عنصرية ألمانيا، فهو ببساطة يتمثل في الشروط العنصرية التي وضعتها لانتقاء اللاجئين السوريين، شارطة أن يكونوا quot;مسيحيينquot;، وكأن البلاد بحاجة إلى سبب جديد لتمزيقها وزرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد؟!
بعد تمسّكه برفض تقديم أيّ دعمٍ عسكري لقوّات المعارضة السوريّة، قرّر الرئيس باراك أوباما أخيرًا تغيير موقفه والتوجّه نحو تقديم أسلحة لمن تصفهم إدارته بأنّهم quot;قوى معتدلةquot; في المعارضة السوريّة؛ إثر عَقْد فريق الأمن القوميّ الأميركيّ سلسلة من الاجتماعات، فخرجت إدارة أوباما لتؤكّد أنّ النظام السوريّ استخدم أسلحةً كيماوية ضدّ معارضيه، ما أدّى إلى مقتل عدد بين 100 و150 شخصًا، ويُعدّ ذلك تجاوزًا للخطّ الأحمر الذي رسمته واشنطن للنظام السوريّ في شهر تمّوز/ يوليو 2012، وهدّدت بموجبه بتغيير قواعد اللعبة في تعاطيها مع الأزمة السوريّة.
الموقف المستجدّ للرئيس أوباما أثار تساؤلاتٍ حول حقيقة الأسباب التي دعت إلى حصول هذا التغيير، فمنذ أشهرٍ قليلة كانت الإدارة الأميركيّة تعلم أنّ النظام السوريّ استخدم السلاح الكيماوي ضدّ معارضيه في أكثر من موقع، إلا أنّها حاولت التملّص من هذه التقارير. وعلى الرغم من أنّ أوباما ووزير خارجيّته كيري اضطرّا في نهاية المطاف إلى الاعتراف بوجود أدلّة قويّة على أنّ النظام السوريّ استخدم فعلًا السلاح الكيماوي، لم تتعدّ ردّة فعله الإدانات اللفظيّة. كما أثار التصريح الأميركيّ بخصوص عدد ضحايا استخدام السلاح الكيماوي، حالةً من الاستغراب؛ فكيف يمكن لهذا العدد الضئيل نسبيًّا من الضحايا أن يؤدّي إلى تغييرٍ في الموقف الأميركيّ من نظامٍ قتَل نحو 100 ألف سوريّ حتّى الآن، بحسب الأمم المتّحدة؟!
فشل مباحثات عقد مؤتمر جنيف اثنين المتتالية مع الروس، وسقوط مدينة القصير في يد النظام السوري بعد التدخلات التي شهدتها المعركة من قوى خارجية، أحال الرئيس الأمريكي تحت وطأة ضغوط فرنسية- سعودية إلى الموافقة على مبدأ التسليح، وعلى الرغم من أنّ إدارة أوباما لم تفصح حتّى الآن عن حجم الأسلحة التي ستزوّد بها المعارضة ونوعيّتها، فقد بات واضحًا أنّ حجم التسليح سيكون محدودًا، فتم استبعاد إمكانية فرض منطقة حظرٍ جوّي. كما استبعد تزويد قوّات المعارضة بصواريخ أرض - جوّ محمولة على الكتف لتحييد سلاح الطيران الذي يستخدمه النظام، لكن ستلتزم واشنطن بتقديم أسلحة آليّة خفيفة، وقذائف المورتر الخفيفة، والقذائف الصاروخية المضادّة للدروع. وقد وصل بعض هذه الصواريخ فعلًا إلى فصائلَ من المعارضة، واستُخدم في المعارك الأخيرة بريف حلب والغوطة الشرقيّة، ما ساهم في توقف هجوم الجيش على قوات المعارضة في حلب والغوطة ومنع انهيارها، بل وشنّ هجوم عكسي.
إدارة أوباما ما تزال متمّسكة بسياسة عدم السماح بأن يحقّق أيّ طرفٍ انتصارًا عسكريًّا على الآخر، والعودة إلى ممارسة الضغوط للتوصّل إلى تسوية سياسيّة ما يفسّر أيضًا قيامها بالاحتفاظ بصواريخ الباتريوت وطائرات أف16 في الأردن بعد انتهاء مناورات quot;الأسد المتأهّبquot;. في المقابل، ستعمد إلى تكثيف الضغوط على المعارضة من خلال ربط تقديم السلاح بموافقتها على التسوية، وجعل المعارضة quot;مدمنةquot; على تلقي السلاح لتسهيل رضوخها لاحقاً تحت الطلب في أي مؤتمر مقبل قد تتفق عليه الولايات المتحدة مع حلفائها وخصومها على حد سواء، فيما تترك سوريا ساحة لتبديل وجوه الأعداء الاستراتيجيين للولايات المتحدة من تنظيم القاعدة والإرهاب السني المتطرف، بعد مقتل أسامة بن لادن زعيم التنظيم ولملمة ظروف مقتله ودفنه، إلى العدو الشيعي الأقلوي والأقل كلفة في الآونة الأخيرة، بعد تعاظم خطر البرنامج النووي الإيراني، ودعم الولايات المتحدة لرياح التغيير العربي التي أتت بالإسلاميين كحليف quot;مفترضquot; إلى سدة الحكم في عدد من البلدان، وعلى السوريين وحدهم.. دفع ثمن هذه التحولات الدولية والإقليمية من دمائهم فحسب!
... كاتب وباحث
التعليقات