لا يمكن لأحد مهما اختلف مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن يطعن في إنجازات الرجل quot;العصاميquot;، فهو نجح في إخراج تركيا من quot;عنق الزجاجةquot; الاقتصادي، وجمّل صورتها في العالم، وأطاح بهيمنة العسكر على الساحة السياسية، وسعى في حل القضية الكردية سعياً جريئاً وجدياً، توج مؤخراً في عقد اتفاق لسحب عناصر حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى شمال العراق.
البعض يرى في نجاح أردوغان في المحافظة على شعبية حزبه والقبض على زمام الأمور في بلاده لثلاث دورات انتخابية متتالية سبباً في قسوة مواقفه إزاء معارضيه كما يقول البعض. فدعمُ الشارع للحاكم طوال ولايات متتالية يمنحه الانطباع بأنه الأفضل وبأنه منزَّه عن أخطاء غيره، وأن في إمكانه أن يستأثر بالحكم والقرار.
مما لا شك فيه أن المعارضة التركية هزيلة إلى حد بعيد ومفككة إلى درجة لم تعد فيه قادرة على كسب ثقة الشارع خلال السنوات الفائتة، وهي معارضة قومية متطرفة في جزء منها، ويسارية علمانية في جزء آخر، وكردية انفصالية في جزء أخير، لقد نجح الطيب أردوغان في احتواء المعارضة الكردية التي حملت السلاح وروض إلى حد بعيد جناحها السياسي بعد الاتفاق التاريخي مع زعيمها quot;أوجلانquot; ما أثار حفيظة المعارضة القومية واليسارية التي خشيت من انعكاس ذلك على الانتخابات البلدية والرئاسية العام المقبل.
الموقف من سوريا ووقوف الحكومة التركية ومعها جل الشعب التركي إلى جانب إخوته السوريين، ودعمهم وفتح المخيمات لإيواء النازحين واللاجئين منهم، عاد ليثير حفيظة المعارضة القومية واليسارية، وبالذات حزب الشعب التركي ذي الجذور اليسارية والطائفية (العلوية) في مواجهة مواقف الحكومة المتضامن مع الشعب السوري في مواجهة نظامها، لكنها لم تستطع تحريك الشارع التركي ضد الحكومة بسبب قدرة الحكومة على إرضاء الشارع اقتصادياً بعد سداد الديون الخارجية لتركيا للبنك الدولي، وعرض الأخير عليها قرضاً جديداً، ورفع دخل الفرد في تركيا من نحو 2500 دولار في العام، إلى ما يقرب من 10000 آلاف دولار، وعزز من مكانة البلاد إقليمياً ودولياً.
احتجاجات ساحة تقسيم ذات بواعث quot;هوياتيةquot; في بعض تمظهراتها تعود إلى الرغبة في إلغاء بعض معالم النظام العلماني في تركيا الأتاتوركية، وبناء الحكومة جسر سليم الأول الذي يتهمه العلويون في تركيا بقتل الآلاف منهم إبان حكمه، ولديه رصيد من الكره لدى الأقلية العلوية في تركيا وخارجها. فأن يتظاهر الشباب للمطالبة بالسماح بالتقبيل في الشوارع العامة، والسماح ببيع الخمور والكحوليات ليلاً، وعدم تقييد حرية الفرد الشخصية، أمور لا يمكن توظيفها إلا في سياق أكبر تنزع فيه المعارضة إلى مواجهة الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة.
لا ريب أن أردوغان ضاق بمواقف المعارضة وتعدد الآراء، وفي حسبانه أن انفراده بالرأي يختصر الوقت، لأنه في النهاية سيختار الأفضل للشعب ولتركيا، والدليل أنه يحصد على الدوام أصوات الناخبين.
تركيا كلها، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تحديداً، مدعوة إلى أن تدرك نتائج ما بدأ في ساحة تقسيم من احتجاجات وانتشر إلى بعض المدن والمحافظات. وهو ما لحظه عدد من مسؤولي الحكومة فقد أبدى نائب رئيس الوزراء، بولنت أرينش، تفهُّمه لغضب الناس، وقال إن التظاهر حق مشروع، وإن الحوار مع المتظاهرين كان افضل من إغراقهم بغاز الفلفل! وهو ما جعل المتظاهرين العرب في بلدان أخرى ومنها جارة لتركيا quot;يتندرونquot; على المعاملة quot;الفظةquot; التي تعاملت بها الحكومة مع معارضيها! كذلك فعل رئيس بلدية إسطنبول قادر طوباش الذي أقر بأن بلديته ربما quot;أخطأتquot;، ولم تُحسِن شرح المشروع لأهل المدينة قبل أن تبادر إلى اقتلاع الأشجار.
لقد اعتمدت السياسة التركية الخارجية تجاه المنطقة على نوع من quot;الإيديولوجيا الناعمةquot;، فيها الكثير من الحديث والتفاصيل عن الثقافة والنوايا الطيبة والتاريخ المشترك، من مقتضى بناء الثقة بعد عقود من quot;القطيعةquot; مع الجيران، والمطلوب quot;والمتوقعquot; من الحكومة التركية برموزها التاريخيين أن تستوعب الاحتجاجات التي ساهم في إيقاد نارها رموز المعارضة لحسابات سياسية باتت مكشوفة، وأن تتحاور معهم من منطلق الحفاظ على مكتسبات الدولة ومضار انعكاس ذلك على الاقتصاد، بعد أن تراجعت العملة المحلية إلى أدنى مستوى لها خلال 18 شهراً، وتراجع سوق الأسهم نحو اثنين في المئة، واحتمال خسارة وارادت كبيرة من قطاع السياحة الاستراتيجي في البلاد.
وفي ظني أن المظاهرات التي خرجت لحماية النظام quot;العلمانيquot; بنزعته الأتاتوركية المتغولة، لا لإسقاطه كما يظن البعض،ها هيإلى انحسار، وربما أسرع مما كان مقدراً لها!؟

هشام منوّر... كاتب وباحث