ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي يبتلى فيها المسلمون بهذه الفرق و الجماعات و الأحزاب و الحركات الدينيّة المنحرفة الشاذّة عن نهج الحق والعقل والشرع والدّين، فتقرّر باسم الإسلام أن تكون سببا في نشر الفتن و الحروب و سفك الدماء و انقسام الأمة و إضعاف الدول، فمنذ عهد النبيّ (ص) ظهرت quot;الرويبضةquot; و quot;المنافقةquot; و quot;الحروريةquot;، و أمر عليه الصّلاة و السلام بمحاربتهم و مقاتلتهم و كفّ أذاهم عن النّاس والدنيا والدّين.
و قد اجتهدت في العثور على نصّ في التراث الإسلامي التأسيسي يساعد على استنباط حكم شرعي واضح و وعادل ودقيق في quot;فتنة الإخوان المسلمينquot; المستجدّة في مصر و تونس و بلاد عربية كثيرة، فلم أجد أفضل من هذا النص المنسوب إلى الخليفة الراشد الرابع الذي اضطرّ، و هو من هو في قرابته لرسول الله و علمه و تقواه و زهده و حرصه على حرمة الدّم و ميله الشديد لحفظ النفس، إلى مقاتلة الخوارج باعتبارهم quot;إخوة بغوا عليناquot;، و قد أجبر على قتالهم مرغما مكرها في quot;حروراءquot; قرب الكوفة فقتل خلقا كثيرا من رؤوسهم و عناصرهم المتطرّفة، و كان وجه الضرورة عنده أنهم عطّلوا مصالح النّاس و تطاولوا على القانون و الدولة و ظنّوا ظنّ السوء بقيادتها و اتّهموها بالعجز و الإهمال والضعف والخذلان و سوء الحال.
لقد نقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه لمّا سئل عن الخوارج أكفّار هم؟ قال: من الكفر فرّوا، فقالوا: منافقون إذا؟ فأجاب: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، فردّوا ما هم؟ فقال: هم قوم أصابتهم فتنة، فعموا وصمّوا، وبغوا علينا، وقاتلوا فقاتلناهم، وختم بقوله كرّم الله وجهه: لهم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن يذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤهم بقتال، ولا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم معنا.
كما روي عن أمير المؤمنين أيضا أنه لمّا بلغه قول الخوارج في صفّين أن quot;لا حكم إلاّ للهquot; قال quot;كلمة حقّ أريد بها باطلquot;، و هو موقف أشبه ما يكون بقول الإخوان اليوم عن quot;الشرعيةquot;، و هو قول يدرك كل ذي نظر و عقل ودين أنها quot;كلمة حقّ أريد بها باطلquot;، و أن الأمر لا يعدو أن يكون quot;بغياquot; خارج الحكم و quot;طغياناquot; داخله، و لو خلصت نيّة هؤلاء لله و رسوله لحفظوا بركونهم للأمن و السلام دماء المسلمين و جنّبوا الأمة الانقسام و الدول الانهيار كما هو حال مصر و تونس و ربّما الاندثار مثلما هو الحال في سوريا المطحونة بشرور جماعات القاعدة و النصرة و الإخوان.
و يتحدّث أمير المؤمنين في النصّ المذكور من منطلق تمثيله لـ quot;الدولةquot; و quot; الأمّةquot; عن ثلاث محدّدات في تشخيص الموقف من خوارج عصره و خوارج كل عصر ndash; و الإخوان خوارج هذا العصر-، أوّلا أنهم ليسوا quot;كفّاراquot; إذ لا يجوز تكفيرهم، و ثانيا أنّهم ليسوا quot;منافقينquot; لأن غالبيتهم على الأقّل مخلصون في اعتقادهم أنهم جماعة الحقّ، بصرف النظر عن صحّة هذا الاعتقاد من بطلانه، و ثالثا أنّهم quot;صمّ عمي بغاة سبّاقون للعنف و القتال فوجب على الدولة أن تقاتلهم.
و قد رتّب أمير المؤمنين في مقابل هذه المحددات الثلاثة ثلاث حقوق لهذه الجماعة الضّالة المنحرفة، فالضلال و الانحراف الديني و السياسي لا يمنح الدولة حقّ إسقاط الحقوق عن ممارسيه باعتبارهم مواطنين متساوين مع غيرهم، إذ لهم حق معتقداتهم و شعائرهم الدينية أولا، و لهم حقّ العيش بأمن و سلام في ظلّ الدولة ما التزموا هم أنفسهم بالأمن و السلام، و لهم حقّ في المال العام يصرف عليهم منه كما يصرف على سائر المواطنين.
كان بمقدور الإخوان في مصر و تونس أن يعتبروا تجربتهم الفاشلة في الحكم، مجرّد تجربة متعثّرة على الطريق، يستفيدون منها في فهم الكثير من المشكلات التي ظهرت أمامهم و العديد من التعقيدات الداخلية و الخارجية التي تسبّبت في كراهية غالبية النّاس لحكمهم، ثم يخطّطون بعدها لخوض تجارب لاحقة ربّما أحرزوا فيها توفيقا أكبر، على غرار تجربة أردوغان و رفاقه في تركيا عندما نظروا إلى إقصاء زعيمهم أربكان عن رئاسة الحكومة من خلال حركة تضامنت فيها القوى المدنية و العسكرية، كما كان بالمقدور أيضا اعتبار التجربة درسا قاسيا وجب عليهم استيعابه، لكنّهم خلافا لهذه السيرة قرروا الدخول في معارك كسر عظم و انتحار مع دولهم و مجتمعاتهم و جرّ بلدانهم إلى فتن هي أشدّ من القتل، تؤكد جميع الخبرات أنّها معارك خاسرة ستعمّق أزمة الثقة بهم و تزيد من مشاعر الكراهية لهم و تجعل عودتهم للسلطة شبه مستحيلة.
لقد أبدى المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني لحركة الإخوان بعد مؤسسها حسن البنّا، غضبا من بوادر الميل إلى العنف التي بدأت تظهر منذ أواخر الأربعينيات و أوائل الخمسينيات على فكر و ممارسة الجماعة، و ألّف كتابا في حينها قال فيه أن أعضاء الإخوان يجب أن يكونوا quot;دعاةquot; إلى الله بالحسنى و الكلمة الطيّبة لا quot;قضاةquot; يفتّشون في قلوب المسلمين و عقائدهم و يصدرون أحكام الكفر و الفسق و النّفاق، و ما يظهر اليوم على فكر و ممارسات الجماعة و فروعها أن أعضاءها تجاوزوا بأشواط وظائف quot;الدعاةquot; و حتّى quot;القضاةquot;، و قررّوا بما لا يدع مجالا لشكّ ليشغلوا وظائف quot;البغاةquot; و quot;الطغاةquot;، حفظ الله من شرورهم البلاد و العباد و جنّبهم quot;النفاقquot; و الفتن ما ظهر منها و ما بطن.