bull; ثلاثة من أهم الدول العربية مصر والعراق وسوريا تمر بمراحل يصعب وصفها من الانحطاط والتردي، وعندما ننظر الى دول أوروبا الموحدة نرى أنه كان بينها من الحروب والعداوات التي امتدت الى قرون وقرون لأسباب متعددة دينية وثأرية بل وعرقية أيضاً، لكن الذي أوصل أوروبا الى ما هي عليه الآن أنها التفتت الى ما سطره فلاسفتها (كانت)، (هيغل)، (شيلر)، (ماركس)، (غوته)، ثم الفلسفة الحديثة (البراجماتية) (دوي)، (ميل)، (لوك)، (هيوم) الخ.. هؤلاء الفلاسفة معظم أطروحاتهم ndash; وبالذات المثالية منها التي عند كانت وهيغل ndash; كانت تدعو الأوروبيين الى أن يوحدوا صفوفهم في مواجهة التشرذم والتخلف، وكانت دعواتهم الانسانية الليبرالية وخاصة عقب الثورة الفرنسية وقبلها (بيدرو)، (فولتير)، (روسو)، (مونتيسكو)، وغيرهم .. هذا التراث الفلسفي هو الذي أوصل الأوروبيين الى ما هم عليه الآن رغم نزعات فردية لقادةٍ أمثال نابليون وهتلر وسواهم، إلا أن ترجيح العقل والنزعة الانسانية هي التي هيمنت على الفكر الأوروبي وما عليه أوروبا الآن.

لعل هذه الخواطر غير المركزة هي التي أملت عليَّ ndash; في هذه الظروف التي تمر بها أمتي العربية ndash; هذا المقال.
* * *
يذهب بعض المفكرين إلى أن العالم الإنساني ماهو إلا نتاج لفلسفة بدأت بالعلم وإنتهت به!!.
فالعراق القديم، ومصر الفراعنة، كانتا قد خلطتا بين المادية البدائية، والديالكتيكية العفوية.. وتفسير المادية، يعني ببساطة التكوين المادي للأشياء، بينما الديالكتيك، هو تطور هذا التكوين وإرتباطه بقوانين طبيعية موجودة أصلاً، ولكنها غير ممنهجة وملموسة كالفلسفة المثالية..
والفلسفة المادية تتعارض مع الفلسفة المثالية في الجانب الروحي فقط، بينما لا تتعارض معها فيما يتعلق بالعلم، فالكثير من الفلاسفة المثاليين كانوا يُعتبرون أيضاً فلاسفة ماديين، أمثال الفيلسوف الألماني المثالي هيجل الذي عاش بين (1770 - 1831)، واعتمد على مفاهيمه الكثير من الفلاسفة الماديين، أمثال كارل ماركس، وفردريك انجلز، ولودفيك فيورباخ، وجورجي بليخانوف، وغيرهم.
وأغلب هؤلاء الماديين كانوا في الأساس قد أخذوا أساس فلسفتهم العلمية من التراث اليوناني والأغريقي والعربي والإسلامي القديم عموماً، وطوروها، بحيث تعرضوا لجوانب : إما أن تكون مستخرجة من مصادر الأسبقين، أو أنها كانت موضع خلاف بين المدارس الفلسفية، أو أنها جاءت بصورة مقتضبة.. ولكن الاضافة الأكبر في سياق الأعمال الفلسفية التي فسرت الظواهر الطبيعية، هي مساهمة كارل ماركس الذي كشف عن كنه وجوهر القوانين الطبيعية المتحكمة بصيرورة العالم المادي.. ومن بين أهم مصادر الماديين الفلسفية، تلك الدراسات التي كتبها الفيلسوف والشاعر اليوناني القديم كسينوفان الذي عاش في الفترة من (580 - 470) قبل الميلاد، وهيبقراط الذي عاش في الفترة من (460 - 377) قبل الميلاد، وافلاطون الذي عاش في نفس الحقبة الزمنية تقريباً.
أما من العرب والمسلمين، فقد إعتمد ما ظهر من هؤلاء الفلاسفة على التراث القادم إليهم من الحضارات السابقة على الاسلام، والتي امتزجت بالدين الاسلامي، فأنتجت كلٍ من : الكندي و الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، إضافة الى الحركات التي تبلورت ضمن الاطر الاسلامية كالقرامطة، والمعتزلة، واخوان الصفا، وما الى ذلك من ومضات فكرية ازدهرت في ظل الدين الاسلامي.
bull; وقد كتب ماركس رسالة لابنته بعد وصوله للجزائر، وهي البلد العربي المسلم الوحيد الذي زاره ماركس قائلاً :
quot; أشعر بأنني الآن في أجمل بقعة للفكر، وبودي لو أطيل المقام هنا، لأنني وقعت على ثروة لا تضاهيها أية ثروة فكرية أخرى في العالم quot;.
ويقال أن ماركس كان قد صمم أن يتعلم اللغة العربية، وربما تعلم بعضاً يسيراً منها لكي يتسنى له دراسة التراث العربي بلغته الأم التي كتبت به، ولكن ظروف حياته الخاصة المليئة بالفقر والفاقة حالت دون ذلك.
* * *
bull; في عصرنا الحالي لم يبق للفلسفة نفس الدور الذي كانت تحتله في تلك العصور بعد أن إجتاح العلم ميادين الحياة المختلفة، حيث أصبحت الثورة العلمية التكنولوجية مفتاحاً لفحص الظواهر الطبيعية بل وتغييرها وإيجاد أحكام قاطعة في التدليل عليها، بل وفُصلت الفلسفة عن العلم المختبري التطبيقي لتتحول إلى عالم أناني بحت، ولكن ذلك لم يلغي إمكانية إزدهار الفلسفة، لأنها تبقى كما هو الحال بالنسبة للميادين الأخرى القائمة بذاتها تخاطب الفكر والوعي والثقافة، ولكن في ظروف تدليلية ليست مشابهة لتلك الظروف السابقة عليها.
bull; وبالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، فإن تراثنا الفلسفي العظيم كان منذ البداية يتعامل مع العلم والمنطق تعاملاً مبنياً على الوعي الكامل لأهمية العلم في تغيير الحياة نحو الأحسن ونحو الأفضل، وقد أشار العديد من الفلاسفة والعلماء الغربيين بأن للعرب والمسلمين الفضل الكبير في إزدهار وتطور العلوم جميعها، فعندهم إزدهر الطب، وهم الذين صنعوا الآلات والمستلزمات الجراحية التي يُستعمل بعضها لحد الآن في معظم مستشفيات العالم، وهم الذين أسسوا علم الفلك والفضاء حيث لازالت الأرقام المستخدمة في تحديد مسارات النجوم والكواكب لا يرقى إليها الشك بعد أن ظهرت التكنولوجيا الحديثة التي إختبرت هذه الأرقام، وهم الذين طوروا فن العمارة، وهم الذين أسسوا علم الترجمة حيث ترجموا الفكر اليوناني والأغريقي والعبري وبرهنوا على أنهم الرواد الأوائل في هذا الميدان، والعرب هم الذين علّموا العالم صناعة الكتب، وهذه هي أفضل مساهمة قدمها أجدادنا إلى الحضارة الانسانية.
* * *
bull; ربما يرجع سبب هذه المقالة الى أن كل الدلائل الراهنة تشير الى أن المرحلة التي نعيشها هي الأكثر انحطاطاً لهذه الأمة في تاريخها المعاصر، فإلتفت الى الوراء قليلاً للخوض في غمار هذا الموضوع ndash; غير المركز ndash; لعل ذلك يُضفي على نفسي شيئاً من الاطمئنان : أننا كنا يوماً ما شيئاً، ومن المستحيل أن ينتهي ذلك الشيء المجذر في تاريخ الجينات الانساني، حتى وإن نكبنا في حاضرنا الى هذه الدرجة من الانحطاط!!..