لا يملك المجتمع المدني في تونس، مدعوما بالقوى الديمقراطية، إلا أن يحافظ باستمرار على حالة من التأهب واليقظة والإستعداد للتصدي لحركة النهضة ولكتلتها في المجلس الوطني التأسيسي أثناء مناقشة مشروع الدستور. فالتجربة أثبتت أن التغافل على هؤلاء وتركهم فرادى يعبثون بمصير البلاد والعباد يؤدي إلى كوارث لا يحمد عقباها.
ولدى الرأي العام الوطني سوابق في هذا المجال، وquot;تجارب مريرةquot; لعل أهمها قانون العدالة الإنتقالية الذي تم تمريره في غفلة من الجميع، وفي خضم الحوار الوطني حين كان القوم يسارعون الخطى لاختيار خليفة علي العريض، والذي يبدو اليوم (أي القانون) بحاجة إلى نقاشات ومنابر تؤدي إلى مراجعات يجب أن تطاله، سواء فيما يتعلق بالفترة الزمنية المعنية بالمحاسبة، أو بالإنتهاكات التي سيُدان بارتكابها من تثبت بحقه، أو بتركيبة اللجنة المعنية بالمحاسبة وكشف الحقيقة وطريقة اختيار أعضائها. فهناك الكثير مما يجب أن يقال في هذا المجال.
ولعل آخر إبداعات كتلة حركة النهضة هو الفصل 103 من الدستور الذي اتفق جل الخبراء وأساتذة القانون الدستوري على أنه، وبالصيغة التي اقترحتها quot;الكتلة المصونةquot; في البداية، يضرب استقلالية القضاء في مقتل، وبالتالي فإن جميع مسارنا الإنتقالي كما عملية الإطاحة بالنظام السابق يصبحان بلا معنى. فلا يمكن بناء ديمقراطية بدون قضاء مستقل، ولا تتوفر الإستقلالية إذا تدخلت السلطة التنفيذية في تعيين القضاة في الوظائف العليا مثلما أراد النهضويون.
ولعل ما يبعث على الأسى هو تلك التبريرات التي ساقها بعض quot;الحقوقيينquot; quot;المحسوبينquot; على حركة النهضة دفاعا على ما اتُفق على أنه ضرب لاستقلالية القضاء. فبعض هؤلاء تحدث عن أن الديمقراطية تقتضي أن تراقب السلط الثلاث بعضها البعض وبالتالي فلا ضير لدى هؤلاء من أن يتم تعيين القضاة من قبل السيد رئيس الحكومة أو الجمهورية باقتراح من وزير العدل واعتبروا التدخل في التعيينات رقابة، رغم أن الرقابة لا تتعلق بتعيين القضاة وإنما تتسلط على أدائهم لمهامهم لتردعهم عن التعسف في استعمال السلطة.
أما البعض الآخر، وعلى غرار نائبة نهضوية، فقد اعتبر قضاتنا فاسدين وغير جديرين بالإستقلالية التي لا يمكن أن تتكرس إلا بعد تطهير القضاء من الفساد. وهو رأي مردود على أصحابه باعتبار وأن قضاتنا وعلى غرار جميع فئات شعبهم فيهم الفاسدون، وهم قلة قليلة والحمد لله، وأغلبهم نزهاء. كما أن الفاسدين متواجدون في جميع القطاعات وليس فقط في القضاء، لذلك، وعوض الحديث عن تطهير مرفق عام العدالة، وجب الإنكباب على تطهير المجتمع التونسي بأسره بما في ذلك الساحة السياسية وحركة النهضة نفسها التي لا تخلو من الفاسدين.
إن الغالب أن هذا الفصل لن يمر بالصيغة التي أرادتها حركة النهضة وأصرت عليها بل وبررتها، لكنه في كل الأحوال قد ألقى بظلاله على المشهد السياسي المتأزم من خلال تلك النقاشات الحادة والإحتجاجات الصادرة عن هذا الطرف وذاك، وساهم في توتير الأجواء وهو ما كانت البلاد في غنى عنه في هذا الوضع الهش الذي يبحث فيه الجميع عن التهدئة. كما أنه جعل quot;الحركة الإخوانية الحاكمةquot; تستعدي القضاة لتعزل نفسها أكثر، بعد أن حاربت الإعلام والإعلاميين غير الموالين، ودخلت في صراع في وقت ما مع المنظمة الشغيلة (الإتحاد العام التونسي للشغل) ناهيك عن نقابات الأمن الوطني قبل أن تثوب إلى رشدها.
لذلك فإن قضاة تونس مدعومين بالقوى الحية في المجتمع المدني مطالبون اليوم بخوض آخر معاركهم لتكريس إستقلالية القضاء. فالمرحلة جد مصيرية وحاسمة، فإما أن نؤسس نظاما ديمقراطيا حقيقيا جوهره قضاء مستقل وصحافة حرة وإما أن نعود مجددا إلى عهود الإستبداد الغابرة وسيكون الأمر أكثر سوء هذه المرة باعتبار اقحام المقدس - الذي هو ملك لجميع التونسيين - في الحياة السياسية بعد أن اعتقد بسطاء القوم من أنصار الإخوان أنه حكر عليهم دون غيرهم ونصبوا أنفسهم بدون وجه حق مدافعين عنه دونا عن جميع التونسيين.
- آخر تحديث :
التعليقات