عام النكبة، هُجِّر أبواه من قريتهما quot;ترشيحاquot; إلى مخيّمات لبنان. كانت الأم حاملاً، تجري وراء زوجها وبطنُها أمامها.
بعد شهور، هاجر الأبوان مرة ثانية إلى سوريا. وهناك، في معسكر مهجور للجيش الفرنسي، في واحدة من قرى حمص، حطّا الرحال مع من حطّوا. وفي أول يوم لهما على الأرض السورية، جاء مولودهما البكر، في إسطبل للخيل، فأسموه quot;صالحquot;.
عاش صالح كل تفاصيل تغريبة اللجوء التي يعرفها جيداً الفلسطينيون.
نما وترعرع في مخيم حمص. ثم انتقل إلى مخيم اليرموك في دمشق، حتى أنهى البكالوريا، فأرسله الأب إلى إسبانيا، ليدرس طب العيون. ولينقذ العائلة، حين يرجع طبيباً، من مغبة الفقر وحياة الشظف في المخيم.
نزل صالح في سرقسطة. ودرس سنة في كلية الطب، ثم لم تستطع العائلة مدّه بما يقيم الأود، فانتقل إلى برشلونة. واضطر أن يعمل عتّالاً في مينائها القديم: يفرّغ السفن على كتفيه، ويملأ السفن على كتفيه.
بعد وقت ذهب لكلية الإعلام، مطوّحاً بأحلام الوالد عمر. وبدل أن يكمل، عاد بعد سنتين إلى مخيم اليرموك.
فلا الطب ولا الإعلام يروقانه.
يروقه فقط إغواء الجمال. تروقه فقط تلك العوالم السحرية التي هي هبة الموهبة والمخيّلة في امتزاجهما الرفيع والمُبهر.
وكان ما كان من سيرته ومسيرته التي يعرفها المتابعون .
وهكذا:
نقل صالح علماني لقراء العربية ومتأدّبيها، مئة وأربعة كتب من لغة ثربانتس إلى لغة أبي الطيب المتنبي.
مسيرة تعجز عن الإتيان بثمارها جماعةٌ أو مؤسسة.
أخذ هذا الرجل على عاتقه، أن ينقل الجمال اللاتيني، كالماء الزلال، إلى أذواقنا وعطشنا اللافح. أن ينقل قارّة إلى قارّة.
واليوم، بعد قرابة عمر كامل من الكدح، فكّرت فلسطينُ في تكريم ابنها البارّ. واشتغل أخوة مخلصون، في اتحاد الكتّاب وبيت الشعر، على الترتيبات منذ شهور.
في البداية قُدِّم اسم صالح للارتباط المدني في رام الله، للحصول على تصريح دخول، فرفضت سلطة الاحتلال. قلنا لعلّ وثيقة السفر السورية هي السبب. حاول الأخوة هناك، طرق جميع الأبواب والمسالك، بلا جدوى. بعد وقت حصل صالح على إقامة إسبانية لمدة خمس سنوات، ثم منحوه في مدريد وثيقة سفر إسبانية، فراودنا الأملُ مجدداً.
ولمّا حان الموعد، سافر المكرّمون الأربعة بجنسياتهم الإسبانية، وكان صالح الوحيد بينهم بوثيقة سفر. إنتابتنا الهواجس، لكن الأمل الخلّب راودنا وأوهمنا أن الاحتلال الكولنيالي ربما سيحترم التاج الإسباني على الوثيقة.
شهور وصالح علماني منفعل ومتوتّر. فهي زيارة لفلسطين وليس أيّ بلد. فلسطين التي لم يرها قط، والتي لم يكفّ عن حلم رؤيتها قط.
اعتذرَ عن عدة زيارات لبلدان، في فترة الانتظار هذه.
وكان كلما اتصلت به أو اتصل بي، أسأله عن آخر رواية يترجمها، فيردّ: توقفت عن الترجمة، ولن أستطيع العودة إليها إلا بعد الزيارة.
كنت أعرف أنّ هذه الزيارة لمسقط الرأس ووطن الحلم، تسكن ليله ونهاره. والانتظار صعب ومُهلك للأعصاب. وصالح لا يترجم آلياً بالطبع، وإنما بعدّة كاملة من الصفاء والرواق والمزاج العالي. وطوال شهور فقدَ هذه الصفات.
المهم: دخل الوفد بأعضائه الثلاثة ونسائهم، ومُنع صالح.
تلقيت الخبر المؤلم، وفكّرت: كيف هو حاله الآن، في عمّان، ينتظر عودة الوفد ليرجع معهم إلى إسبانيا؟
أية أفكار ورؤى وهواجس ستساوره مدى أسبوع؟
أية خيبة وأيّ خذلان؟
ولكنه الاحتلال ndash; هل نسيتَ! - أُذكّرُ نفسي.
الإحتلال ببشاعته وفاشيته وأمراضه القديمة ذاتها. الاحتلال الأصمّ الأبكم عن كل جمال، وكل ما يأتي منه قبيحٌ مثله. بيد أنه ndash;أبداً- لن يكسر أرواحنا يا أبو عمر.
لا بأس أيها المترجم الناصع ..
كنا نأمل، ونعوّل قليلاً على وهم quot;التاجquot;، لكنهم كعادتهم خذلونا وأطاحوا بحلم عمرك في أن ترى فلسطين، وبحلمنا في أن نراك على تراب فلسطين.
إنما الأيام قادمة .. وسيعمل محبّوك وعارفو فضلك، على فرصة ثانية لزيارة وطنك. وثق أن هؤلاء سيحاولون مرة أخرى وأخرى، حتى يتحقق الحلمان: حلمك وحلمنا.