لا شيء في مصر يمكن إعادته مجددا إلى الوراء، حتى لو ظل هناك من يراهن على ذلك. فعلى الرغم من أن إطار الصورة الحالية يحتوي على ملامح مما شهدته البلاد في عام 1954، حين أمسك جمال عبد الناصر برئاسة البلاد، في أعقاب الرئيس السابق ممد نجيب، إلا أن الموقف الذي تم الاعلان عنه من جانب القوات المسلحة المصرية قبل أيام قليلة، يظل بعيدا، وبخطوات عدة عما تم في ذلك الوقت الذي تفصلنا عنه ستة عقود كاملة.
فالمناخ العام الذي يتولى في ظلاله، المشير عبد الفتاح السيسي حكم مصر، مغايرا على نحو تام مع ذلك التي تولي خلاله عبد الناصر زمام السلطة، فسقف التوقعات الشعبية هذه المرة أعلى بكثير، فيما بؤرة العيون مسلطة ويقظة، وتمارس الانتقاد بصوت عال، وبشكل أكبر بكثير من أي مرة سابقة.
الآن، من غير الممكن بعد اندلاع ثورتين شعبيتين متتاليتين، أن يتجاهل أي قائد سياسي، عمق الاسباب التي كانت وراء اندفاع الملايين الغفيرة للخروج الى الشوارع والميادين، والمطالبة برحيل نظام عتيد مثل نظام مبارك، ثم الخروج مرة أخرى لإبعاد نظام راح يتدثر بعباءة الدين، لتحقيق أهدافه التي لم يكن يسعى من خلالها الا للقبض على مفاصل الحكم وتحقيق أحلامه في التمكين التام من البلاد والعباد، بعد هاتين الثورتين العارمتين، لم يعد أمام أي حاكم جديد، إلا أن يتوقف كثيرا عند كل خطوة ينوي الاقدام على اتخاذها، عليه هذه المرة أن يضع في حسبانه، طموحات تلك الجماهير المتحفزة، وتطلعاتها التي راحت تعبر عنها من ثورة الى ثورة.
لم يعد حكم مصر أمرا سهلا، فبعد سنوات متصلة من القهر والاذلال والتجاهل، بدا للمصريين إن أمر اسقاط النظم المخادعة، مهما علت أسوارها وتضخمت آلتها الباطشة، لم يعد عصيا، بل أصبح في متناول اليد، فما أيسر أن يساهم الغضب العارم في تجميع القوى، وتحفيزها على النزول والاعتصام في الميادين حتى يرحل النظام عندما لا يصبح صالحا للاستمرار في نفس مكانه.
مصر التي كانت في زمن عبد الناصر، لم تعد تتطابق مع مصر الحالية في زمن السيسي مهما حاول البعض ترويج ذلك، فبدون مشروع وطني يتجاوز ما حاول ناصر السير على طريقه، وبدون إشعار المحبطين بأن هناك طريق يتم السير عليه ليؤدي في النهاية الى العدالة الاجتماعية، فإنه ستكون هناك عقبات كبيرة، تتدافع الواحدة منها بعد الأخرى على طريق النظام الجديد، وبدون أن يزن النظام كل كلمة تخرج من أجهزته، وتحمل وعودا للجماهير، ثم يعمل جاهدا على تجسيدها على أرض الواقع، فإن الشعور باليأس سوف يظل متصلا، ما يمكن أن يضع عراقيل على الطريق، تساهم في زيادة الاحساس بالاحباط.
مصر في حاجة الى صبر والى حكمة، والى تلافي كل المثالب التي شهدتها الستة عقود الماضية، والاقتراب أكثر من نبض الناس وتلمس أوجاعهم والسعي الدؤوب لحلها. أما الوعود التي تنطلق بين وقت وآخر، والاستمرار في ممارسة هواية تأجيل الحسم مع المشاكل حتى ما كان مزمنا منها، فلن يؤدي سوى الى المزيد من القلاقل.
الان بات المشير السيسي قاب قوسين أو أدنى من رئاسة البلاد، ذلك الأمر وان كان يتم برغبة شعبية واضحة، ولا يمكن لأي متابع مهما بلغت درجة تحفظه، تجاهلها، فإن العبء الذي سيلقى عليه سيكون شديدا للغاية، ولعل الآمال التي ظل الشعب المصري ينتظر تحققها من حاكم الى آخر, حتى فقد الامل فيها عند وصول quot; الفاصل الكوميديquot; وعشيرته الى سدة الحكم، باتت اليوم على أشد درجات اتساعها، وهو ما يضع ضغوطا هائلة على الحاكم الذي يأتي بعد حدوث كل تلك الاخفاقات، من سلطة عسكرية تواصلت لسنوات عديدة، أو سلطة لم يكن لها من هدف سوى الامساك بالحكم، عبر خدمات السكر والزيت للفقراء، أو التمسح بأهداب الدين، حتى وان كانت وسائلها وغاياتها ثم النتائج التي أسفرت عنها دنيوية، ومخادعة.
سيجيء السيسي الى الحكم، بينما التفجيرات تتواصل، والاشتباكات التي يفتعلها المنتمون الى تلك العشيرة على أشدها، وسيجيء بينما تشهد الحدود حالات من الانفلات، وبينما يواصل تنظيم ما يسمى ب quot; أنصار بيت المقدس quot; فقدان بوصلته، وشن الهجمات بعيدا عمن احتل بيت المقدس، وتسديد الضربات المشينة الى صدور المصريين، وايقاع الضحايا منهم من وقت الى آخر، وهو ما سيضع على عاتقه مع مطالب توفير متطلبات المعيشة للناس، مهمة اعادة الأمن الى ربوع البلاد، والقضاء على البؤر الارهابية، التي تحمل من الأسماء ما هي أبعد ما تكون عنه.
ستظل مصر في النهاية، هي الحقيقة الباقية، بعد إنجلاء كل هذا الظلام، وسيصب التاريخ لعناته على هؤلاء الذين يراهنون على انهيارها، والذين يتصورون أنهم بالتفجيرات والاغتيالات قادرون على إعادة الزمن الى الوراء، غير أن المهمة الثقيلة التي ستلقي على عاتق الرئيس المقبل، سو تتمثل في اعادة الأمن الى النفوس، وإحياء الأمل، وبث الطمأنينة للذين طال انتظارهم لها.

كاتب مصري
[email protected]