تفطن الفينيقيون قبل غيرهم إلى أهمية الموقع الإستراتيجي لـ"تونس اليوم" فأتوا مستوطنين من سواحل بلاد الشام قبل قرون من ميلاد المسيح، وأقاموا مرافئهم التجارية على امتداد سواحل الخضراء، فازدهرت وتحولت إلى حواضر كبرى اختلطت ساكنتها بشعوب الداخل من البتر و البرانس و شتى الأمازيغ. فبرزت قرطاج التي سرعان ما نمت و ازدهرت و تحولت إلى إمبراطورية ضخمة سادت في ربوع المتوسط وخضعت لها أمم عديدة في كريت و مالطا و صقلية و شبه الجزيرة الإيبيرية و في منطقتي الآلب و البو ووصلت& إلى ساحل العاج و خليج غينيا و ما تسمى اليوم الكامرون وفقا لآثار مكتوبة و مخطوطات إغريقية.
& كما أدرك الرومان من بعدهم أهمية أفريكا (تونس) و أنه لا يمكنهم بأي حال من الأحوال الهيمنة على المتوسط، الذي كان يمثل يومها مركز العالم، دون وضع اليد على المفتاح، أي ضفتي مضيق صقلية. فكان همهم طيلة عقود من الصراع هو تدمير قرطاج، فخاضوا حروبا شعواء طويلة في الزمن انتهت بإصابة القرطاجيين في مقتل ليفتح الباب على مصراعيه لروما لنحت مجدها المتوسطي كإمبراطورية لا يشق لها غبار على أنقاض قرطاج و مستعمراتها وحضارتها التي أثرت في العالم القديم.
و تواصل لاحقا الصراع على الضفة الجنوبية لمضيق صقلية بين العثمانيين و الإسبان طيلة عقود، حسمها في النهاية السلطان سليم الثاني و صدره الأعظم سنان باشا من خلال طرد الإسبان من تونس و القضاء على الدولة الحفصية نهاية القرن السادس عشر، فتحولت تونس إلى إيالة عثمانية خاضعة للباب العالي و التحقت بكل من الجزائر و طرابلس. ومنذ ذلك التاريخ و العثمانيون يهيمنون على متوسط القارات الثلاث شرقه غربه ويمارسون قرصنتهم و تجارتهم الخارجية دون رادع أو رقيب إلى أن بدأ الوهن يدب في أوصال الإمبراطورية التي تحولت في أواخر عهدها إلى "رجل مريض".
و تفطن "ملك استقلال تونس" عن العرش العثماني حمودة باشا الحسيني الذي حكم في نهاية القرن الثامن عشر و بدايات القرن التاسع عشر إلى أهمية الموقع الإستراتيجي لهذه البلاد الخضراء فاستغله أفضل استغلال فكون أسطولا بحريا عظيما أخضع به البندقية من خلال صلح مذل سبقه قتال عنيف، كما أخضع جيران تونس في البلدان المجاورة من الدايات و الباشاوات المرتبطين، بخلاف تونس، وحتى ذلك التاريخ بالدولة العثمانية و الذين أرادوا التآمر على الملك التونسي خدمة للباب العالي. و ازدهرت بفعل هذه الأساطيل من السفن المبادلات التجارية مع أوروبا و كذا نشاط القرصنة الذي هو في نهاية المطاف إتاوات و ضريبة تدفعها السفن العابرة لمضيق صقلية الذي كان تحت السيادة التونسية.
كما تفطن الفرنسيون بعد خمسة عقود من احتلال الجزائر إلى أن الهيمنة على المتوسط و على الطريق التجارية الدولية لا يمكن أن تتم إلا بالسيطرة على تونس، الضفة الجنوبية لمضيق صقلية التي تنتصف الطريق بين مضيق جبل طارق و قناة السويس أهم معبرين في الطريق التجارية الدولية الرابطة بين السواحل الأطلسية الأوروبية و شرق آسيا. فأطبق الفرنسيون القادمون من البحر و من الجزائر على ملك تونس الصادق باي في قصره في باردو و أجبروه على توقيع معاهدة الحماية في 12 ماي 1881.
و حل رئيس الوزراء الفرنسي جول فيري ببنزرت سنة 1887، أي بعد ستة أعوام من إبرام معاهدة باردو وقام بجولة بمدينة الجلاء قال فيها قولته الشهيرة وهو منبهر بالموقع الإستراتيجي للمدينة التونسية الشمالية "كنت محقا حين أتيت". و أضاف وهو يمتطي قاربا فوق مياه بحيرة بنزرت وهو يشاهد المواقع الهامة " إنّ هذه البحيرة تضاهي في قيمتها الإستراتيجية قيمة البلاد التونسية كلها، و إن بنزرت هي غايتي من احتلال تونس".
و لم ينتظر فيري طويلا فأسس مدينته قرب بنزرت التي اكتمل بناؤها بعد سنة من زيارته، وسميت بإسمه "فيري فيل" لتتحول بعد الإستقلال إلى منزل بورقيبة. و أقام فيها منشآت عديدة تمكنه من الإستغلال الجيد للضفة الجنوبية لمضيق صقلية، فحفرت الأحواض في عمق بحيرة بنزرت لتتحول إلى قاعدة عسكرية بحرية كبيرة يعتمد عليها الجيش الفرنسي و كذا الحلف الأطلسي في سياسته الدفاعية استفاد منها التونسيون لاحقا بعد تحرير القاعدة إثر معركة الجلاء.
و بنى الفرنسيون دارا لصناعة السفن العسكرية و التجارية الضخمة في الحوض المتوسطي جلبت إليها الأنظار بعد أن ذاع صيتها، فتحولت المنطقة إلى مركز متوسطي لإيواء السفن و تزويدها بالوقود و المؤن وذلك بفضل الجالية المالطية التي استوطنت تخوم هذه الأحواض في "فيري فيل" وامتهنت عائلاتها نشاط إعداد الغذاء للسفن العابرة. وعادت بعد الإستقلال هذه العائلات إلى موطنها الأصلي في مالطا لتغير وجه أرخبيلها الصغير الذي أخذ المشعل عن بنزرت و أصبح مركزا دوليا تقصده سفن الأرض جميعا، ومن مختلف الجنسيات للتزود، رغم أن مالطا لا تنتج الغذاء الذي تنتجه الخضراء، التي لم تحسن دولة استقلالها استغلال موقعها الإستراتيجي.
لقد من الله على تونس بموقع نادر جلب لها الإزدهار والنماء وهو ما يثبته التاريخ، كما كان هذا الموقع أيضا مثارا للأطماع و إسالة لعاب الغزاة و المستعمرين. فالجغرافيا التونسية و كلما تم توظيفها توظيفا جيدا إلا وصنعت التاريخ و غيرت وجه البلاد. فهي ثروة في حد ذاتها وعلى غاية من الأهمية، و هي مستمرة في الزمن و لا تنضب كما الموارد الطاقية والمنجمية.
فتونس الواقعة في قلب الحوض المتوسطي، الذي يتوسط بدوره القارات الثلاث، التي تتوسط بدورها العالم قادرة على أن تكون منطقة عبور بحرية وجوية لكل بلدان العالم. فهي همزة الوصل بين القارتين العجوز و السمراء و بين مشارق الأرض و مغاربها، ويكفيها بنية تحتية راقية من موانئ و مطارات كبرى و إرادة سياسية حقيقية و تخطيط ينجزه ساسة متمرسون لتلعب هذا الدور المحوري الذي لعبته سابقا و تخلت عنه بعد دحر الإستعمار الأجبني عن أراضيها.
فمشروع ميناء المياه العميقة المتوقف يجب أن ينجز في أسرع الآجال ليصبح قطبا متوسطيا يجنب السفن الكبرى العابرة لـ"مضيقنا الذهبي" و المثقلة بالحمولة عناء الإنتظار لساعات و أحيانا لأيام لولوج هذا الميناء الداخلي أو ذاك. فتتحول تونس إلى محطة رئيسية إجبارية في حركة الملاحة الدولية و قطبا تجاريا تؤمن فيه البضائع من قبل الناقلين على ذمة أصحابها من مختلف بلدان الحوض المتوسطي و حتى منطقة البحر الأسود التي ليس لها من منفذ بحري على العالم سوى المياه الدافئة للبحر المتوسطي.
كما وجب أن يتدعم هذا الميناء بمناطق حرة و بشبكة جديدة من السكك الحديدية و الطرق السيارة تربط مع دول الجوار المغاربية و تفك عزلة المناطق الداخلية و تدمجها في التنمية و تشجع حركة نقل البضائع إلى هذه الموانئ و المناطق الحرة. فالمدن التي نمت و كبرت و ازدهرت عبر التاريخ هي التي كانت محطة في طريق تجاري إما بحري أو بري أو حتى جوي.&

&