&بمجرد ان حصل اردوغان على تفويض البرلمان التركي لاحتلال العراق وسوريا فقد تصور بانه قادر بعدة طرق على تحقيق احلامه العثمانية المريضة دون ان يكون هنالك رادع دولي او اقليمي او حتى محلي يقف بوجه هذه الاوهام التي يبدو انها تمكنت من اغلب ساسة حزب العدالة والتنمية الذين يبحرون بالسفينة التركية باتجاه الارتطام بجزر صخرية صلدة ستقودهم الى نتائج سلبية تُعطل من المسيرة المُفترضة لتركيا نحو الانفتاح والتحرر من اغلال الماضي.&

ففي هذا النموذج التركي يبدو ان قسوة التشبث بهذه الاغلال والعيش في اسرها تكون اكثر خطورة حينما تتعلق بالمنظومة الحاكمة التي لا تريد مغادرة هذا التاريخ بل تعمل جاهدة على الانغماس فيه وفرضه على شعوبها وكذلك على الشعوب الاخرى المجاورة لها بهدف اعادة احياء هذا التاريخ باعتباره النموذج الوحيد الذي تقوى على صناعته وتمريره للمنطقة العربية بشكل خاص. وهو مالا يتوافق ونواميس الحياة لكل النظم السياسية التي ارادت لنفسها ان تكون مركزا لصناعة مستقبل مزدهر لشعوبها وشعوب الدول التي تجاورها. وهنا تتصاعد امام المرء صورة الصِدام الحتمي بين المكونات المجتمعية من جهة وبينها وبين الحكومة التي تريد اسقاط هذا التاريخ على المشهد المستقبلي لمجمل هذا النطاق الجغرافي من جهة اخرى في حالة تعبير عن مغادرة المجتمع لهذه الاغلال وكسره لقوابلها الفكرية التي يُراد ترسيخها سياسيا بهدف تطويع المجتمع واستخدامه لخدمة اهدافها التي لا تخلو من مشاريع توسعية.&
&
هنا كانت مدينة كوباني , الصغيرة بجغرافيتها الكبيرة باطارها الاستراتيجي , هي نقطة التحول التي اشعلت شرارة الغليان في تركيا التي شهدت خلال الايام الماضية العديد من التظاهرات المُطالبة بضرورة التصدي لارهاب داعش الذي يستهدف الاكراد هناك. حيث ازدادت حدة الاحتقان القومي داخليا بفعل الاتهامات الموجهة للحكومة التركية من قبل المتظاهرين بانها متقاعسة عن القيام بما يجب عليها ان تقوم به من اعمال حيال قطع امدادات داعش تمويليا ولوجستيا فضلا عن ضرورة ايقاف تدفق المقاتلين الاجانب بصورة اكثر حزما. مع التاكيد على ضرورة ان تقوم تركيا بفتح الممر الذي يربط الحدود مع كوباني للسماح من خلاله للمقاتلين الاكراد بالوصول الى هذه المدينة لمساندة الابرياء المحاصرين هناك.&
&
مشهد المظاهرات هذا يُذكر بالكثير من التجارب السابقة التي اشعلت تركيا بنار الفوضى الداخلية التي تترك لها اثارا مهمة على قطاعات واسعة في هذا البلد الذي بدأ اقتصاده يعاني من اختلالات هيكلية مهمة بفعل الاضطرابات الحاصلة في دول الجوار والتي اسهمت في خسارة العديد من الشركات لأسواق تصريف منتجاتها. لذا فان تركيا اليوم بامس الحاجة الى تامين سلامة اوضاعها الداخلية من اي اضطرابات كبيرة قد تودي ببقايا اقتصادها المترنح. ومثل هذه الاضطرابات الكبيرة بدات بوادرها تلوح في الافق بفعل التوتر الذي بدا يشهده الشارع التركي في اكثر من مفصل مهم من مفاصل تفاعلاته المجتمعية مع السياسة وما ينتج عنها من مخرجات.&
&
ففي الحصيلة الاولية للاضطرابات التي حصلت بفعل استخدام العنف ضد المتظاهرين المنددين بسياسات اردوغان والقوات الحكومية وصل عدد القتلى الى 22 قتيل خلال 48 ساعة. علما بان التركيبة العمرية لاغلب المشاركين كانت تشير الى انهم من فئة الشباب المتحمس والمندفع قوميا باتجاه مناصرة ابناء جلدتهم في الطرف الاخر من الحدود. حيث يعتبر كثير منهم ان ما قامت به تركيا خلال السنوات الماضية من عمليات تسهيل لحركة الارهاب ومن دعم واسناد متعدد الاوجه , كان سببا رئيسيا لوصول الامور الى ماهي عليه الان في مجمل المنطقة وبالذات منها في كوباني. لذا كانوا يرون بان مثل هذه التظاهرات ستشكل مصدر ضغط شعبي من شانها ان تسهم في ايصال رسالة رفض شعبي- تركي للعالم عن السياسات المتبعة من قبل حزب العدالة والتنمية التي يبدوا بانها سياسات ستعصف باكذوبة تركيا الجديدة وما طُرح حولها من تصورات خيالية لا تلامس الواقع.&
&
الصدامات في شوارع تركيا ومدنها الرئيسية لم تكمن خطورتها فقط في مواجهة الشرطة بل خطورتها الحقيقية تكمن في المواجهات التي دارت بين الشباب التركي من المؤيدين لمساندة كوباني واولئك المؤيدين لتنظيم داعش الارهابي. علما بانها ليست المرة الاولى التي تشهد فيها تركيا مثل هذا التوتر الذي تريد اخفائه ومسح اثاره بكل السبل المتاحة عن الصورة التركية وكيفية تشكلها في اذهان الاخرين. فقبل اسابيع من الان وبالتحديد بتاريخ 26 سبتمبر حصلت ازمة كبيرة في جامعة اسطنبول عندما قام مجموعة من الطلاب الاتراك من كل المشارب القومية هناك بتنظيم مظاهرة ضد الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش. وقد جوبهت هذه المظاهرة بهجوم من قبل اشخاص مقنعين استخدموا العنف تجاه المتظاهرين الذين قالوا " اننا نتهم حزب العدالة والتنمية بالوقوف وراء هذه الاعمال الوحشية ".&
&
الخشية من تكرار هذا المشهد ارعبت الكثير من القيادات التركية في ظل الادراك المتنامي في اوساطها بعدم القدرة على التحكم باليات تطوره المستقبلية. لذا وجدنا بأن رئيس الوزراء السيد اوغلو يقوم بالقاء محاضرة في احدى الجامعات التركية ليؤكد فيها على اهمية فك الارتباط بين الاسلام والارهاب بهدف تخفيف حدة القناعات التي بدات تتبلور لدى الراي العام التركي وبشكل خاص في الاوساط الاكاديمية من ان هنالك ربط بين تركيا والارهاب حيث قال في محاضرته التي عنونها برؤية تركيا الجديدة والجامعات مايلي " اننا نرفض الاشارت التي تحاول قسرا ان تلحق الاسلام بالارهاب ونشير الى الدور الحضاري الذي لعبه الاسلام في اوربا وظهور اتباع ابن رشد لانهاء دور محاكم التفتيش والتحجر الفكري... ". وهو نوع من الخطاب المخاتل الذي يبدو بانه فشل في ظل المظاهرات الاخيرة بتحقيق اهدافه بفعل العقلية المجتمعية المتفتحة في تركيا التي بدات تتسائل عن مستقبل تركيا في ظل احتمالات قيام دولة مجاورة تتصف بالتطرف الذي سيعمل لاحقا على تصدير محاكم التفتيش الى الداخل التركي ذاته !&
&
&جاء التصعيد في حدة الاضطراب الداخلي في تركيا خلال الايام الماضية متزامنا مع التاكيدات التي صدرت من قبل الهاربين من كوباني حيث اشاروا الى ان المخابرات التركية تقوم بالقاء القبض عليهم والتحقيق معهم بطريقة تعسفية متهمةً اياهم بانهم على صلة بحزب العمال الكردستاني , لذا ومصداقا لهذا الراي اعلنت تركيا بان الاوضاع الامنية في تركيا تحتم عليها ان تنظر لكل القادمين من سوريا على انهم مناصرين للفصائل الكردية المسلحة. الامر الذي عزز لكثير من الاكراد في تركيا فكرة التآمر على كوباني في ظل ما تقوم به الجماعات الارهابية هناك من فضاعات بهدف تصفية الحساب مع الاكراد هناك عبر داعش من اجل الاضرار بهم نكاية بما حققوه خلال السنوات الماضية من عمر الازمة السورية من نجاحات في الادارة الذاتية لمناطقهم وما اثبتوه من مواقف متوازنة بعدم انغماسهم في المشاريع التآمرية ضد سوريا. لذا يُتوقع لهذه السياسة ان تسهم في زيادة الاضطراب الداخلي في تركيا خلال الفترة القادمة من الزمن خاصة اذا ما تمكنت داعش من فرض سيطرتها الكاملة على هذه المدينة التي تتوقع لها الكثير من المصادر بانها ستشهد واحدة من اقسى حملات التطهير العرقي في المنطقة.&
&
حدة غليان الداخل التركي مرشحة للتصاعد ايضا بفعل الادوار المهمة التي تمارسها قوى المعارضة التركية التي ترى في سياسات اردوغان عنصرا رئيسيا في ولادة الارهاب في سوريا والعراق. وهو ارهاب سيسهم في تقويض فرص احلال السلام الداخلي في تركيا بفعل دوره المحتمل في نسف مجمل عملية السلام مع الاكراد. حيث بدا الاكراد في عموم المنطقة باستنفار طاقاتهم المجتمعية للتنديد باردوغان كما هو الحال في كردستان العراق وكذلك في اوربا التي تشير التقارير الى انها بدات تشهد هجرة عكسية للاكراد باتجاه العودة للقتال مع القوات الكردية ضد الجماعات التي هاجرت ايضا من اوربا للالتحاق بداعش. وهو ما يهدد باتساع رقعة الكراهية للسياسات التركية بالطريقة التي ستقود الى تمدد رقعتها الجغرافية كما انها ستقود بالنتيجة الى زيادة حدة الصدامات المجتمعية التي لن يمكن التحكم بها بسهولة.&
&
في ظل هذا الادراك تريد المعارضة التركية اعادة توجيه السياسة التركية او على اقل تقدير تصحيح بعض من مساراتها بالطريقة التي تسمح بامتصاص النقمة الداخلية المتنامية في البلاد. ففي هذا الاطار طرح حزب الشعب الجمهوري رؤيته الخاصة بكوباني والتي لخصها زعيم الحزب بالفكرة التالية " على الحكومة التركية ان تعمل على اعادة النظر بالتفويض البرلماني المُعطى لها من خلال التاكيد على فكرة تحديد صلاحيات هذا التفويض عبر حصرها بإمكانية نشر القوات التركية على الحدود لتامين مدينة كوباني من خطر الارهابيين... دعنا نضيف الى هذا التعديل فقرة تؤكد على اننا يمكن ان نقوم بتقديم العون لكوباني بتوجيه ضربات جوية ".&
&
رؤية المعارضة التركية ستسمح بزيادة غليان تركيا داخليا بفعل طرحها لمشروع يتناغم وطموحات الاكراد في توفير سبل الانقاذ لكوباني , لكنها بالنتيجة رؤية تصطدم بقوة مع التوجهات الكبرى لحزب العدالة والتنمية الراغب في تحقيق مكاسب جيوبولتيكية اكبر تتجاوز كوباني باتجاه اقامة منطقة عازلة ذات مساحة واسعة في سوريا من غير المُستبعد ان تكون قد خططت لحمايتها عبر الجيش التركي الذي تريد توريطه عبر تفويض البرلمان في احتلال سيجلب لتركيا الكثير من الازمات.&
&
بالامس فقط ( 10 اكتوبر ) صرح صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي بانه سيفُسر اي تدخل عسكري بري لتركيا في كوباني على انه احتلال للاراضي الكردية في سوريا وبان مقاتلي الفصائل الكردية لن يقفوا مكتوفي الايدي ضد هذا الاحتلال. وهو تصريح يؤمل له ان يُصعد من غليان الشارع التركي في ظل اشارة يبدو انها متناغمة مع مشروع المعارضة التركية الخاصة فقط بتوجيه ضربات جوية مع التاكيد الذي تصر عليه القيادات الكردية في سوريا بضرورة ان تسمح تركيا بمرور مقاتلي حزب العمال الكردستاني الى كوباني لمواجهة داعش.&
&
تركيا التي كانت تتصور بان حساباتها الإستراتيجية ستمضي الى النهاية دون معرقلات , تصطدم اليوم بكل هذه الكوابح التي يبدو بانها ستسهم بشكل او بآخر في التأثير على المسار التركي في سوريا بكل ما يشهده هذا المسار من مشاهد وما يفرضه من تفاعلات تتجاوز الأطر المكانية الضيقة للحدث باتجاه مساحات واسعة تبدو عملية إدارتها والسيطرة عليها تركياً من الأمور المستحيلة خاصة حين يتعلق الامر بتراجع امكانية التحكم بالداخل التركي الذي يتوجه الى الانفجار بوجه حزب العدالة والتنمية.&
&
كاتب واكاديمي عراقي
&
&