ثمة حديث نبوي مسند ومتفق عليه،جاء في صحيح البخاري، وورد في بعض المصادر الشيعية أيضا، بينما أغفلته أخرى لهم لأسباب معروفة يقول " لا تطروني كما أطرى النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله!" والإطراء لغة هو الغلو في المدح، وهو أقل درجة من التقديس بكثير. وهذا يفضي وفق المنطق إلى إن الرسول نهى عن تقديسه، وينطبق من باب أولى وبالضرورة، على ذريته وأهل بيته. وقد أراد الرسول بذلك ان يبقى هو وعائلته أناسا بين الناس!
فهو يرى أنه قد اصطفي لرسالة إلهية لهم، ولا يريد أن يعلو ويستكبر عليهم، فلا يسمح لأحد أن يلصق به ما لم يأت به، أو يقوم به من عمل أو تصرف! والقرآن نفسه يؤكد ذلك " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ولم يقل أرسلناك قيدا أو صاحب قداسة ومحرمات ضارة بالعالمين! بل أن القرآن أجاز لمن يشاء ان لا يؤمن " فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر" " فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب" " لكم دينكم ولي دين" " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" أم إنهم يريدون القول أن كل هذه الآيات قد نسخت بآية السيف، ليصبح السف بأيدي الجميع؟!
أراد الرسول أن لا يبدو، لا هو ولا أي من ذريته وأهل بيته مشاركا لله في صفاته الكبرى كالخلود حيا دون مرض أو موت، أو العودة للحياة الدنيا الفانية بعد موته، أو غيبته، أو بامتلاك القدرات الخارقة التي يتحدث عنها الروزخونية اليوم، والتي صارت تثير ضحك الناس في اليوتيوبات، وتعمل على ثلم هيبة من يتحدثون عنهم، وتسيء لذكراهم!
ويبدو ان الكثيرين من مراجع ومتزعمي الشيعة وضعوا هذا الحديث ظهريا،&وراحوا يراكمون على مدى مئات السنين إرثا هائلا من المقدسات ويستولون بسطوة المقدس على عقول ملايين البشر يقطنون مساحة هائلة من الأرض تجاوزت مدنا، وأقاليم شاسعة،تحت شعار: ( كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء ) أي ان مقدساتهم يجب أن تطبق على جميع العراق وأهله، وربما العالم بأسره، وفي كل زمان وحتى بأثر رجعي، يقتضي تصفية الحساب ودفع الخمس لهم والذي لا تعرف أوجه صرفه، ولا في أية خزينة يوضع!
لا ينبغي في مسألة تصاعد هذا النهج،إغفال الحاضنة الملائمة التي خلقتها أجواء ما سمي بالحملة الإيمانية التي أطلقها صدام وعزة الدوري وكتبتهما بعد الهزيمة في حرب الكويت، والتي حولوا فيها حزب البعث من حزب علماني تقدمي، إلى حزب متخلف عن ركب الحياة، يتذبذب بين النزعة الدينية المخادعة، والنزعة العلمانية المتفسخة، كما أن أجواء الحصار الخانقة، وكثرة قتلى الحروب المتلاحقة والمصابين فيها ألجأت الناس إلى الغيبيات والمقدسات كآخر ملاذ لليائسين من أي عون عربي أو إسلامي أو دولي! وما يزال عزة الدوري حتى اليوم يقود عصابات النقشبندية والدراويش التي تتبنى أكثر التيارات الصوفية ابتذالا وتخلفا، معلنا تأييده أو انضمامه للدواعش، وتلك أفظع نهاية لهذا الجناح من حزب البعث!
وبعد أن تولت الأحزاب الشيعية الطائفية السلطة في العراق بتنسيق أميركي إيراني انطلق من يسمون أنفسهم بمستشاري ومؤرخي المرجعيات والحوزات؛ وبدفع إيراني محموم، ينبشون في التاريخ، وفي كل بقعة من أرض العراق عن أية واقعة أو حدث أو أثر مادي يمكن ان يكون مقدسا وفق مفهومهم للمقدس؛ ليصبح مناسبة للعزاء تعطل من أجله دوائر الدولة، ويتوقف الناس فيه عن العمل، ويتحول إلى حقنة هائلة لتسميم العلاقات بين الشيعة والسنة، وبين المجتمع ككل وآفاق العلم والحضارة،ويمنح الإيرانيين موطئ قدم جديد في العراق!
وحين يجدون في أرض ما، أثرا ما؛ سرعان ما يرتبون له من مخيلتهم حكاية تتعلق بأحد رموزهم ليتحول إلى مقام مقدس، ثم يأتي أحد الأثرياء من العراق، أو إيران عادة ليشتري الأرض الواسعة التي حوله من الدولة بثمن بخس، ويبني عليها فندقا ومطاعم ومخازن ويتحول كل شيء حول المقام إلى استثمارة تجارية باسم المقدس، تجارة المقدس ازدهرت اليوم في العراق جنبا إلى جنب مع الفساد والإرهاب والواحدة تحتمي بالأخرى!
وهكذا راحوا يبتدعون المقدسات ويتفننون في صياغتها وتهويلها لتعشي الأبصار والقلوب، فصارت المقدسات على أيديهم تفرخ مقدسات، وحين تصير المدينة مقدسة يحكم عليها أن لا يكون فيها مسرح أو سينما أو معرض فن أو تصوير أو قاعة للموسيقى، ودعك من الحانة والملهي ومتجر الخمور، فالعراق اليوم كله صار بلا سينما ولا حانة ولا ملهى وويل له لو صار كله أرضا مقدسة! بذاك سيحكم عليه بالكآبة المطلقة، وعلى أهله بالحزن والإحباط الأبديين، بينما النبي يأبى أن يكون هو نفسه وأهله مقدسين، بل هم بشر أرادوا بسلوكهم ومواقفهم أن يكونوا مثالا طيبا في الإنسانية، فيحتذى بهم ويحترمون، دون رهبة أو خوف!
ترى من أجاز لهؤلاء المتزعمين المشبوهين الجدد، أن يحكموا على مدن بإعدام الحياة فيها، وعلى بشر هم بالملايين بالحزن مدى الحياة؟ وبأي حق؟ كل برلمانات العالم لا تجرؤ على إعدام نمط من الحياة في قرية، فكيف بالحياة كلها بجعلها رهنا لمقتضيات الآخرة، وللحسابات السياسية والمالية، لا الحياة الدنيا الحقيقية؟
الأدهى والأمر، ان المدن المقدسة في العراق يعيش معظم أهلها الآن في فقر مدقع، يفتقدون الخدمات الأساسية؛ فلا كهرباء لديهم ولا ماء صالح للشرب،ولا رعاية صحية، بل أن كثيرين منهم يلوذون بالضواحي والهوامش؛ يسكنون أكواخ الصفيح بين المستنقعات والمزابل، بينما استحوذ رجال السلطة الكبار من الأحزاب الدينية ناشرة القداسة على أموال الدولة حتى تركوها مفلسة، ومضوا غارقين بمتعهم وقصورهم وملذاتهم وأرصدتهم الهائلة من السحت الحرام في بنوك سويسرا وطهران وبيروت،وغدا سيطالبون لأنفسهم بالقداسة!
أدى الثقل الهائل للمقدسات وتفرعاتها الجاثم على صدور الناس إلى ان تصدر عن البعض جماعات أو أفراد، مثقفين أو أشخاص عاديين ردود أفعال تتراوح بين الانتفاض الواعي الدقيق، والتعبير المنفعل الجارح، وبدلا من أن ينظر إلى عمق الألم والغيرة الوطنية التي دفعت هؤلاء لموقف أو رأي مضاد يتسم بحدة الوجع، والرفض الغيور، يسارع من نصبوا أنفسهم على مقدرات الناس؛ لوضع الحد عليه، ويتسابقون لذبحه، وحرقه جسديا أو معنويا!
وهكذا بدلا من أن يكون المقدس قد جاء لخير الإنسان؛ يتحول إلى مصدر لشقائه وموته، وهذا يخالف الرسالة الافتراضية لكل دين!
التعليقات