كان التأسيس للمرحلة الراهنة التي بلغها العراق، المهدّد بالتقسيم الفعلي، بعدما كان هذا التتقسيم معمولا به نظريا، منذ ما قبل اسقاط النظام العائلي ـ البعثي لصدّام حسين في التاسع من نيسان ـ ابريل ٢٠٠٣. يومذاك& سقطت بغداد وسقط التمثال...ودخل العراق عهد الهيمنة الإيرانية التي رافقتها محاولات جدّية بذلها الأكراد للمحافظة على اقليمهم وابقائه بعيدا عن دورة العنف الناجمة عن& انفلات الغرائز المذهبية، الغرائز ذات الطابع الشيعي والسنّي تحديدا.
لا يمكن في أي شكل الدفاع عن نظام صدّام الذي لعب دورا اساسيا في القضاء على نسيج المجتمع العراقي والذي افتقد في كلّ وقت الحس السياسي واستعاض عنه بالحسّ القمعي القائم على مبدأ التخلّص من أيّ مواطن لمجرّد الشكّ في نياته.
في الواقع، لم يكن نظام صدّام مسؤولا وحده عمّا حلّ بالعراق وصولا إلى الإحتلال الأميركي. كان عهده الطويل تتويجا للتدهور البطيء للبلد على كلّ المستويات. بدأ التدهور في اليوم الذي& اطيح فيه الحكم الملكي الهاشمي عن طريق انقلاب عسكري دموي في الرابع عشر من تمّوز ـ يوليو ١٩٥٨. لم ير العراق يوما أبيض منذ الإنقلاب الذي نفّذته مجموعة من الضبّاط الجهلة المتعطشين للدّم. هؤلاء لم يدركوا في أيّ وقت معنى السعي إلى بناء دولة تحترم الحدّ الأدنى لحقوق الإنسان وتحافظ على البيوتات التجارية والصناعية العراقية وعلى الأجانب والعرب المقيمين في العراق للعمل فيه والإستفادة من ثرواته. كان هؤلاء وبينهم عائلات لبنانية وسورية مصدر غنى للمجتمع العراقي بديلا من التقوقع والتراجع على كلّ المستويات.
زادت أوضاع العراقيين تدهورا في صيف العام ١٩٧٩ عندما اصبح صدّام حسين رئيسا ولعب لعبة الحرب مع ايران غير مدرك أنّه يخوض مغامرة لا يمكن إلّا أن ترتد عليه يوما. لم يدرك أن محاربة نظام متخلّف مثل النظام الإيراني، يريد تصدير ثورته عبر الغرائز المذهبية، لا يمكن أن تكون بواسطة دخول الأراضي الإيرانية وبدء حرب استمرّت ثماني سنوات عادت بالويلات على العراق بالرغم من اجباره ايران على الشرب من كأس السمّ أخيرا.
بدّد صدّام معظم الثروات العراقية وبدّد بعد ذلك ما بقي منها عندما اقدم على مغامرته المجنونة باحتلال الكويت صيف العام ١٩٩٠ غير مستوعب للنتائج التي يمكن أن تترتّب على جريمة موصوفة من هذا النوع.
يشبه ما يشهده العراق في هذه الأيّام، إلى حدّ كبير، انتفاضة مطلع العام ١٩٩١ على نظام صدآم حسين. الفارق الكبير بين انتفاضة الموصل وتكريت الحالية وانتفاضة ١٩٩١ التي جاءت بعد هزيمة الجيش العراقي في الكويت أن ما يجري اليوم لا يلقى دعم قوى خارجية.
في ١٩٩١ كانت ايران وراء الإنتفاضة وبعثت بقوات تضمّ عراقيين مدربين لديها للمشاركة في أعمال التخريب في الجنوب العراقي. شمل التخريب وقتذاك كلّ ما له علاقة بمؤسسات الدولة والسجلات العقارية والمدنية. كان المطلوب ازالة كلّ أثر للدولة في العراق وصولا إلى تغيير تركيبة المجتمع...
انضمّ الأكراد إلى تلك الإنتفاضة ولكن من دون دعم خارجي يذكر. كان طموحهم مقتصرا على الإستفادة من هزيمة صدّام حسين في الكويت لرفع بعض الظلم الذي لحق بهم طوال يسنوات طويلة...
ما نشهده في العراق اليوم هو أقرب إلى ثورة شعبية في المناطق السنّية أكثر من أي شيء آخر. صحيح أن هناك شيئا اسمه "داعش"، أي الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن الصحيح أيضا أنّ هناك قوى أخرى منتفضة بينها انصار حزب البعث والعناصر التي كانت تنتمي إلى الجيش الذي حلّه الأميركيون الذين تسببوا بقطع أرزاق نحو نصف مليون عائلة.
الأهمّ من ذلك كلّه أن هناك عشائر عربية ثارت أيضا. جاءت ثورتها تعبيرا عن رفض الظلم الذي عمل نوري المالكي على تعميمه في كلّ المناطق العراقية من منطلق مذهبي بحت. ثبت أنّ المالكي لا يختلف كثيرا عن صدّام حسين، مع فارق أنّ صدّام لم يكن طائفيا. وهذا جانب في شخصيته لا يمكن التهرّب من الإعتراف به.
يحصد العراق حاليا ما زرعته ايران التي استخدمت المالكي في فرض نفوذها على البلد. لكنّ الخطأ، في اساسه، ليس ايرانيا. هناك رغبة ايرانية قديمة في اعتبار العراق منطقة نفوذ تدار من طهران. هناك أيضا رغبة ايرانية في الإنتقام من كلّ عراقي لعب دورا في حرب ١٩٨٠ ـ ١٩٨٨. هذا واضح من خلال اغتيال المئات، وثمة من يقول الآلاف، من الضباط والطيارين العراقيين، الذين شاركوا في تلك الحرب.
الموقف الإيراني يبدو طبيعيا، خصوصا اذا أخذنا في الإعتبار الحاجة إلى بعض النفط العراقي في المدى الطويل.
ما ليس طبيعيا أن تكون الولايات المتحدة لعبت الدور المطلوب منها ايرانيا في العراق. فالولايات المتحدة كانت وراء حلّ الجيش العراقي. والولايات المتحدة مهّدت لغزو العراق بالتنسيق مع ايران وليس مع أيّ دولة أخرى في المنطقة. والولايات المتحدة أقامت مجلس الحكم الإنتقالي الذي كرّس بعيد الغزو تهميش السنّة العرب في العراق.
قبل ذلك كلّه وفي كانون الأوّل ـ ديسمبر ٢٠٠٢، قبل اربعة أشهر من بدء الهجوم الواسع على العراق، انعقد في لندن مؤتمر للمعارضة العراقية برعاية أميركية ـ ايرانية. خرج المؤتمر بوثيقة تتحدّث للمرّة الأولى في التاريخ الحديث للبلد عن "الأكثرية الشيعية في العراق" وعن الدولة "الفيديرالية".
كان الحديث عن الفيديرالية مسألة طبيعية في ضوء الظلم الذي تعرّض له الأكراد، الذين يريدون العيش بسلام بعد كلّ التجارب التي مرّوا فيها، بما في ذلك الحروب في ما بينهم. لكن الكلام عن "أكثرية شيعية" جاء تعبيرا عن رغبة واضحة في ادخال العراق في متاهات الصراعات والمواجهات المذهبية. لماذا الإصرار الأميركي على تلك الرغبة التي لها ما يبررها ايرانيا؟ لا يزال الجواب عن السؤال صعبا. إنّه بصعوبة التكهّن بما سينتهي عليه العراق اثر الثورة التي تشهدها المناطق السنّية ذات العمق السوري.&
&