&ما أجمل أن يتصف المرء والمجتمع بالإيثار والعطاء وحب الخير للآخرين، وما أقبح أن يتصف بالأثرة والأنانية وحب النفس. والإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين من أسمى المراتب والأخلاق الكريمة التي رغبت وحثت عليها مختلف الديانات والثقافات، حرصا على العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية بين الأفراد ولضمان تماسك المجتمعات وسعادة البشرية.
والإيثار (Altruism)، هو تقديم الغير على النفس، أي يقدم المرء حاجة غيره على حاجته، على الرغم من احتياجه لها، ومساعدة وعمل الخير للآخرين من دون مقابل، وهو عكس الأثرة والأنانية، أي حب الذات أو النفس وتفضيلها على الآخرين وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.
وقد أكد ديننا الإسلامي ورغب وحث على ممارسة وإحياء فضائل الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين، بمختلف الوسائل، سواء بالمال أو الوقت أو قضاء حوائج الناس، وأمر بتعميقها في نفوس وقلوب الأفراد، للحصول على الثواب الدنيوي والأخروي، ولضمان تماسك المجتمع وتقدمه. كما أجريت الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية عن طبيعة الإيثار وأهم منبئاته وارتباطاته وأكدت نتائجها على الفوائد الصحية الجسمية والنفسية والاجتماعية الكثيرة التي يجنيها الفرد والمجتمع من ممارسة سلوك الإيثار والعطاء وحب مساعدة الآخرين، سواء بالمال أو بالكلمات الطيبة المشجعة، واكتشف العلماء أن هناك منطقة في المخ مسؤولة عن سلوك الإيثار وترتبط& زيادة وشدة نشاطها مباشرة بدرجة الإيثارية لدى كل فرد.
يقول عالم النفس الأميركي، دانييل غولمان، في كتابه الشهير "الذكاء العاطفي"، أن علماء علم نفس النمو وجدوا من خلال دراساتهم، أن جذور الأخلاق يمكن غرسها في الإنسان منذ مرحلة الطفولة، فالأطفال منذ اليوم الأول لولادتهم، يشعرون بالاضطراب والتوتر عند سماع طفل آخر يبكي، ومثال ذلك ما جاء في دراسة عالم النفس مارتن هوفمان، المختص في التعاطف، بأن طفلا عمره عام، قام بجذب أمه نحو صديقه الطفل الذي يبكي لتواسيه وتخفف عنه، متجاهلا أم صديقه الطفل الموجودة بالحجرة، وطفلة أخرى عمرها عاما تضع إصبعها في فمها إذا جرحت إصبع طفلة أخرى، لتتبين هي أيضا إن كانت ستشعر بالألم والأسى. ويرى هوفمان أن جذور الفضيلة أو الأخلاق موجودة في القدرة على إبداء مشاعر التعاطف، بمعنى أن تتصور نفسك في مكان الآخرين، وهذه القدرة هي التي تدفع الأفراد لمشاركة الآخرين في محنتهم والتحرك لفعل أي أشياء لمساعدتهم. ويرى هوفمان أن التعاطف مع الآخرين ينمو بشكل طبيعي منذ السنوات الأولى لمرحلة الطفولة ويستمر مع امتداد العمر.
ولكن السؤال المهم المطروح هو: هل افتقد مجتمعنا فضائل الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين؟ وكيف يمكن إحيائها من أجل نهضة وتماسك أمتنا وحماية بيوتنا وأسرنا ومجتمعاتنا؟
الحقيقة أن الإيثار والعطاء وحب الخير للغير، نزعة وشعور داخلي موجود في نفس كل فرد منا، ولكن يحتاج لمن يثيره ويخرجه ويحوله إلى سلوك واقعي عملي، بالكثير من الأساليب والطرق المبتكرة، وتتسم الشخصية العربية والإسلامية بسمة الإيثار والعطاء وحب مساعدة الآخرين، مستمدة ذلك من ديننا الإسلامي الحنيف وحضارتنا الإسلامية العريقة.
فقد أكد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بالكثير من الآيات والأحاديث، وكذلك الصحابة والسلف الصالح على خلق الإيثار والعطاء، فقال تعالي: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» (سورة الحشر آية "9") والخصاصة شدة الحاجة، وجاء في سبب نزول هذه الآية: أن رجلا جائعا جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، وطلب منه طعاما، فأرسل - صلى الله عليه وسلم - ليبحث عن طعام في بيته، فلم يجد إلا الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من يضيف هذا الليلة، رحمه الله)، فقال رجل من الأنصار، أنا يا رسول الله، وأخذ الضيف إلى بيته، ثم قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني، فلم يكن عندها إلا طعام يكفي أولادها الصغار، فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج (المصباح) وتقدم كل ما عندها من طعام للضيف، ووضع الأنصاري الطعام للضيف وجلس معه في الظلام حتى يشعر بأنه يأكل معه، وأكل الضيف حتى شبع وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين، وفي الصباح ذهب الرجل وضيفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال للرجل (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة).. (مسلم) ونزل قوله تعالى "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".
وهذا خاتم النبيين وإمام المرسلين الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة وأعطته بردة هدية فلبسها - صلى الله عليه وسلم - وكان محتاجا إليها، ورآه أحد الصحابة فطلبها منه وقال: ما أحسن هذه، أكسينيها، فخلعها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطاها إياه فقال الصحابة للرجل: ما أحسنت، لبسها الرسول - صلوات الله عليه - محتاجا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد أحدا، فقال الرجل: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني.. (البخاري) واحتفظ الرجل بثوب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان كفنه.
وصورة أخرى من صور الإيثار، أنه ورد في "شعب الإيمان" أن الصحابي الجليل أبو جهم بن حذيفة العدوي انطلق يوم معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له ومعه شربة ماء، وبعد أن وجده جريحا قال له: أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة، وقبل أن يسقيه سمعا رجلا يقول: آه، فأشار ابن عم حذيفة إليه ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم، فذهب إليه حذيفة فوجده هشام بن العاص، ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلا آخر يقول: آه، فأشار هشام لينطلق إليه حذيفة بالماء، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات، فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، لقد فضل كل واحد منهم أخاه وآثره على نفسه بشربة ماء.
وقد قسم الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، خلق الإيثار إلى منزلتين: الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما يرضي الله ورسوله، وهذه درجات المؤمنين من الخلق والمحبين من خلصاء الله، والثانية: إيثار رضاء الله على رضاء غيره، وإن عظمت فيه المحن ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل، عليهم صلوات الله وسلامه.
هذه الصور والنماذج المشرقة للإيثار والعطاء تجعلنا، ولدينا الكثير من الأثرياء ورجال الأعمال الناجحين، أن نتساءل عن كيفية إحياء وتشجيع أخلاق وفضائل الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين وقضاء حوائج المحتاجين، والوعي بقيمة المال والعمل والتنافس المشروع على كسبه بين أفراد مجتمعنا الإسلامي، للتخفيف من معاناة وآلام المحتاجين والمحرومين، وقد تسببت الأثرة والأنانية في عداوات وخلافات بين كثير من الأفراد، وفي هدم كثير من البيوت وتشريد الكثير من الأسر والمجتمعات، وأن نفكر في كيفية تنشئة أبنائنا على هذه الفضائل والأخلاق لتصبح سلوكا فعليا ونمطا للحياة بين أفرادنا وداخل مجتمعاتنا، والتفكير في أساليب وطرق مبتكرة أفضل للعطاء ولاستثمار وصرف وتوظيف أموال أثريائنا وأصحاب رؤوس الأموال العرب والمسلمين، وأهمية غرس ثقافة تبرع الأثرياء ومسؤوليتهم الاجتماعية تجاه مجتمعهم، للعمل على نهضة وتقدم أمتنا، وليكن لنا في ديننا وتراثنا الإسلامي دروس ونماذج وعبر للفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.
لقد أصبحت هناك أهمية لتنمية وتربية أبنائنا على مفاهيم وقواعد وسلوكيات الإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين، وغيرها من الأخلاقيات والقيم الإنسانية والمجتمعية النبيلة، ومنذ مراحل النمو الأولى، وذلك من خلال مفردات الخطاب الديني، وأساليب التنشئة الاجتماعية، وبخاصة في الأسرة والمدرسة، التي يمكن أن تساهم جميعها في تحسين العلاقات والروابط الإنسانية، وتماسك وترابط الأفراد والمجتمعات.
كاتبة وباحثة في الشؤون العلمية
&