في ذاكرتي صور عن تهجيرنا، كنت لا ازال طفلا ايلول عام 1961، ولكنني كنت اعي ما يحدث واحفظ الصور في ذاكرتي، اعيها كقصة وليس كابعاد ونتائج، كانت قرى نيروا وريكان (منطقة في شمال شرقي دهوك) قد سبقتنا في الهجرة او بالتهجير، فالتهجير لم يكن بارادة ذاتية، بل جراء هجوم اطراف معينة على القرى وغالبا لاسباب عشائرية، ولكن قرى ابناء شعبنا الاشوري كانت الاسهل على المهاجمين من الطرفين، لانها لم تكن تمتلك تلك الاسلحة الكافية للدفاع عن الذات، ولانها لم تتحصن خلف حلف عشائري او قومي او ديني لكي تدافع عن نقسها وتتلقى العون من الحلفاء. كان اغوات نيروا وريكان في خلاف مع الحركة الكوردية ولاسباب عشائرية محض’ ولذا تعرضت مناطقهم للهجوم من قبل مؤيدي ثورة 11 ايلول الكوردية، وتهجر من جراء ذلك ابناء شعبنا الاشوري من المنطقة بشكل كبير، لتقوم حكومة البعث باتمام العملية من خلال تدمير كل القرى او ما تبقى منها وتجمع السكان المتمسكين بارضهم في مجمع ديرلوك عام 1978. اتذكر ان الكثير من ابناء قريتنا في اول الامر ساند الحركة الكوردية، وغالبا لان الكثيرين اعتبرها نوع من التمرد واعتبرها نزهة قصيرة، فبعض تسلح ببنادق الصيد وتحصن بالجبل خلف قريتنا في مقابل العمادية التي كانت تمثل مركز الحكومة العراقية، ولان الحكومة لم تكن تمتلك اي خريطة او مكان لموقع المعارضين، فانها ارسلت طائراتها الجيتس ان لم تخني الذاكرة، التي القت قنابله وطلقات رشاشاتها على القرى وسكانها.
سمع اهل القرية عن قدوم جتة (الجتة هي التسمية التي اطلقت على الكورد الموالين للحكومة والذين سلحتهم ودفعتهم لقتال الثوار، وكانوا في الغالب من العشائر المناوئة، وكان هناك خوف كبير منهم، لانهم لم يكونوا يتفاهمون، فكل همهم السرقة والسلب وطلب الاموال وحرق القرى باكملها وحتى سبي النساء) في تلك الليلة، قام ابناء القرية بتركها، لقد تركت الماشية في اماكنها ولم يتم التفكير فيها، وكل واحد اخذ معه ما خف وزنه وغلا ثمنه، وكان الانسان وما عليه هو الذي تمكنوا من تهريبه من القرى، لان ثروتهم الحقيقية كانت في الماشية التي يمتلكوها والاراضي والدور. فهم في غالبيتهم فلاحون، وكانوا ينمون النفس بالعودة السريعة، ومنذ ذلك الوقت وهم في دور التمني. ففي ذلك الزمان لم يكن هناك منظمات مجتمع مدني ولا منظمات دولية لكي تمد يد العون والمساعدة، فكل واحد هو وحظه التعس.
كان التهجير في العراق وفي شماله تحديدا (كوردستان العراق)، فغمرت بغداد ودهوك وكركوك والموصل وحتى البصرة بالمهاجرين الباحثين عن لقمة العيش، كانوا في الغالبية من الاشوريين، فالكورد وان احرقت بعض قراهم الا ان الموازين والارتباطات العشائرية، سلمت الكثير منها، وكان التنقل بين طرفي الصراع اسهل لهم. لم يسمع احد صراخ المهاجرين ولا لانينهم ولا انبرى احد لمعالجة وهنهم. لقد تكفل الزمان بها. ولكن الهجرة والتهجير في العراق لم تتوقفا، بل استمرا بوتائر اكبر، واليوم موجة الهجرة والتهجير تكتسح المنطقة برمتها، فلو سلطنا عليها منظارا من اعلى لوجدنا مئات الالاف من العراقيين في سوريا، ومثلهم من السوريين في العراق، ومثلهم من السوريين في لبنان وعدد كبير من العراقيين ايضا، في تركيا تتجمع مجاميع من المهاجرين العراقيين والسوريين، في عام 1915 اخرجت تركيا كل اشوريها من لم تطالهم يد السيف والقتل، وهام البعض منهم يعود، مصر تحتضن عشرات الالاف من السوريين والعراقيين وهاهي ليبيا تدفع ابناءها للهجرة الى مصر وتونس،وبشائر ذلك في الجزائر من خلال الصراع العربي الامازيغي، المتبدل ان هناك منظمات مجتمع مدني او منظمات دولية، بدات تمد يد العون والمساعدة للهاربين وان كانت بالحد الادنى، انه معالجة مؤقتة لداء كبير وعصي، نعم اتسم التهجير في بداية الستينيات بالوحشية ولكن ما يحدث الان فاق كل خيال في التوحش والتفنن في التدمير، ليس تدمير البنيان الحالة التي عرفها الشرق منذ قدوم الغزاة الى المنطقة، بل تدمير الانسان وقيمه وكرامته.
&وكانه هنالك لوحة في رسم التكوين او الاعداد، وكانه هناك ملامح جديدة لشرق اوسط جديد، هذا ما يتراء لمن يتمعن في التفكير وفي الصورة المتكونة، صحيح ان الصورة لا تزال سوريالية لا يمكن تفسيرها بشكل واضح وموحد، الا ان ما يحدث ينبئ بامور قد تنباء بها الكثيرين، وهي تحلل المنطقة الى فيسفساء من الدويلات الغير المستقرة الا بفعل قوى دولية تضبط ايقاع العلاقة بينهم. لقد سارت المنطقة بخطى ثابتة نحو هذا المصير وبارادتها المطلقة ولا يمكن لوم اي احد على ذلك، فالمنطقة ودولها اصرت ان تبقى دول فاشلة، اصرت ان تنقل صورة القبيلة وقيمها وممارساتها الى مستوى الدولة، وهاي ستعود الى مستوى القبيلة، ولكن بخليط غير متجانس يضطرها لكي تتنازل من اجل الحياة عن الكثير مما دعت اليه دولة القبيلة. فصراخ الحروب والغزو ورمي الناس في البحار، وصراخ المطالبة بتركيع الناس حالما توفرت بعض الاموال الزائدة، سيقابله التذلل للدول الكبرى لكي تضبط ادارة الايقاع يبنهم، وبين كل عشيرة ومواطنيها، الا ترون دلائل ذلك، هذه الدعوات المحمومة للتدخل الدولي لايقاف الذبح والقتل والاغتصاب والسبي الجماعي، لم تعد الدعوات محصورة بالاقليات المنهارة والمرعوبة والمذلة، بل صارت الدعوات تشمل الاكثريات الخائفة من اكثريات اخرى، من دول وقادة وجامعة الدول العربية. وهو اعلان صريح بفشل هذه الدول عن ادارة امورها.
لن يكون الحل بوقف هذا الانحدار السريع، فنتائج ما قالته هذه الدول، من ان الخريطة التي رسمها الاستعمار جزأت الوطن، وهم يعملون الى توحيده، ومنذ ما قيل عن كشف الصحفي الهندي كرانجيا لمخطط سري لتفتيت المنطقة عام 1957 في كتاب له معنون "خنجر اسرائيل"، ورغم هذا الكشف اي اعلانه، فالمنطقة تسير بخطى ثابته نحو الانحدار سواء في علاقتها مع شعوبها او مع بعضها البعض، واذا كان يعتقد ان المخطط حينها كان للعراق وسوريا ولبنان، فان ما يقال الان انه تم توسيعه ليشمل المنطقة باسرها. لقد او صلت السياسات النابعة من اعتناق ايديولوجية قومية مطعمة بالدين المنطقة الى مرحلة الحروب الاهلية، والحرب الان تحمل شعارات دينية خيارها بين الجنة والنار. وكل يدعي انه يملك مفاتح الجنة والاخر في النار. لا الشعوب ولا القيادات يمكن ان تتهم احد، بالتسبب في الحالة الراهنة، فاذا كان البعض يتعلل بالاعداء فمخطط الاعداء المفترضين كان مكشوفا، والسؤال لماذا سرتم فيه وانتم به تعلمون؟ عجيب وغريب امر ابناء هذه المنطقة، يتأمرون على بعضهم البعض، ويقطعون رؤس بعضهم البعض، ويسلبون ويسبون بعضهم البعض، ولو اطلعنا على كتب التاريخ سنجد الالاف من الامثلة على ذلك، ولكنهم يشكون من تامر الاخرين عليهم!!! وتأمر الاخرين مكشوف لديهم كما يزعمون ولكنهم يسيرون فيه، ويتهمون المتأمرين!!!
الحل سيكون باعتناق الشعوب لمبدأ الحرية والعدالة والمساواة، بغض النظر عن دين او قومية او مذهب او منطقة، الحل سيكون بقبول خيارات الاخر، بالامس كان ديفيد كامرون رئيس وزراء المملكة المتحدة، يتحدث عن موضوع استقلال اسكتلندا والاستفتاء المزمع عقده بهذا الشأن وبكل حيادية، وكان الامر له سيان ومنوط بخيار الناس، وهو سيحترم هذا الخيار، رغم ان الرابطة التي تربط اسكتلندا مع المملكة المتحدة عمرها ما لا يقل عن خمسة قرون، لا ينتهي العالم عند بريطانيا او انكلترا او ويلز، بفراق اسكتلندا، فقط لدينا تقوم الدنيا ولن تقعد ان طالب احدهم بحقوقه وتساويه مع الاخر، فيتحول بين ليلة وضحاها اسرائيل الثانية وخنجر في خاصرة الامة وعدو الاسلام وهلم جر من الاتهامات. وكل هذا والمتحكم اليوم بهذه المنطقة يمكن ان يتهم بانه ابشع استعمار استيطاني شاهدته البشرية، فبقوة السيف تم تحويل المنطقة من حال الى حال،وسادت ثقافة ودين على منطقة عرفت بالتنوع الدائم.
&
التعليقات