في سنة 97 هـ كنت ضمن وفد طلابي زار تركيا بعد أن تم اختيارنا من مدارسنا بدعم من رعاية الشباب آنذاك بحيث يتم اختيار ثلاثة طلاب من كل منطقة، إثنان يمثلان المرحلة الثانوية وواحد يمثل المرحلة المتوسطة، وكنت ممثلا للمرحلة المتوسطة مع زميلين من المرحلة الثانوية ونمثل ثلاثتنا منطقة نجران ضمن أربعة وعشرين طالبا يمثلون المملكة في تلك الرحلة الرائعة التي استغرقت اسبوعين تتحمل تكاليفها الكاملة رعاية الشباب، زرنا خلالها العديد من الأماكن الأثرية والتاريخية والسياحية، وكم أتمنى لو تعاد تلك البرامج المفيدة لما لها من تأثير على نفس الطالب وعقله.
كنا ومعنا ثلاثة مسئولون يمثلون وزارة المعارف ومترجم تركي، على ظهر باخرة كبيرة تعبر بنا بحر مرمرة في جو اسطنبولي عليل وطقس صيفي أخاذ نستمتع بأكل الآيس كريم ونمتع أنظارنا برؤية تلك الطبيعة الخلابة على خلجان البحر المحيطة بإسطنبول من كل جانب. وفجأة هجم علينا رجل تركي جاد الملامح يحمل حقيبة سيمسونايت في يده، ويلبس جاكيتا وبنطلونا وربطة عنق في هيئة رجل دبلوماسي أو مثقف وطلب من مترجمنا التركي أن يترجم سؤاله الى رؤساء الوفد الطلابي، أولئك المسئولين الثلاثة الذين لا علاقة لهم بالسياسة أو الثقافة.
&رفض المترجم أن يتجاوب مع ذلك الرجل الصارم لولا أن الرجل ألح أن يسأل وأن يسمع الجواب من رؤساء الوفد الطلابي السعودي وإلا فإنه لن يتوقف عن طرح الأسئلة وكان سؤاله كالتالي:
لماذا لا تدعم السعودية تركيا بالمال والنفط.. بصفة تركيا دولة إسلامية ولها الحق أن تحصل على الدعم من بلد غني كالسعودية؟!
وبرغم غباء السؤال فإن تركيا في ذلك الوقت أكثر غناء وازدهارا من السعودية التي كانت تتلمس بداية طفرة إقتصادية نفطية وكانت أحوج إلى دعم تركيا وليس العكس.
وقع السؤال علينا كالصاعقة ، وأشفقنا كطلاب على رؤساء الوفد كمعلمين كبار السن ولا يعرفون الإجابة على سؤال ذلك الرجل التركي الذي شعر بالزهو والغرور وهو يلمح إرتباكا في ملامحنا جميعا دون أن يجد أحدنا الاجابة على سؤاله . وأصر ذلك الرجل على أن لا يغادرنا حتى يسمع الجواب وكأن هدفه الإساءة الى السعودية بأي شكل كان أمام الكثير من الأتراك الذين تجمعوا حولنا بشماتة.
فجأة إنطلق إلينا من الزاوية القصية على ظهر الباخرة زميلنا طالب المرحلة الثانوية ( حسين اليامي ) بعد أن عرف بالموقف المحرج من أحد الطلاب الذي هرع ليخبر حسين بصدمة السؤال الذي أحرجنا وصورنا كالمدانين أمام الأتراك المتجمعين حولنا بسبب سؤال غبي.
وعاد حسين يسأل المترجم عن السؤال وذلك الرجل التركي يتبسم بثقة وغرور المنتصر، وكأن حسين يريد أن يسكت ذلك الرجل المزعج بأي جواب يشفي غليل الوفد المحرج ويكسر شماتة الواقفين حولنا .. ثم إنتصب حسين أمامنا ونحن نشفق عليه ونتمنى أن لا يزيد من إحراجنا بما يدفع ذلك الرجل أن يشعر بالمزيد من الإنتصارعلينا، و أجاب حسين بثقة وسرعة بديهة مفاجئة للجميع وقال: الإجابة بسيطة... لأن تركيا بكل أسف أول دولة تعترف بإسرائيل ولها علاقة دبلوماسية كاملة معها!
وفجأة تغير لون وجه الرجل التركي.. وشعر بالخجل والهزيمة والغضب بفعل الجواب القنبلة وانحنى ليحمل حقيبته ويهرب مسرعا دون أن يودعنا.. وعندما شعرنا بالثقة والنصر صفقنا لحسين بحرارة. أما المتجمهرون حولنا فقد غادروا الى زوايا الباخرة مطأطئين الرؤوس وغاضبين على ذلك الرجل الذي هرب دون أن يصمد في جداله العقيم وقد شعروا بالخجل مثله.
ولم نكن نعرف في ذلك الوقت حقيقة أن تركيا أول دولة اعترفت باسرائيل، بل أن اغلبنا حتى هذه اللحظة لايعرف ان كانت حقيقة ام لا. ولا نعرف إن كان حسين يقصد أنها أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل أم كأول دولة على مستوى العالم.
&المهم أن حسين فكنا من أزمة سؤال.. لكنه لقننا درسا في حب المعرفة والقراءة والإطلاع. فشكرا لحسين الذي تقاعد قبل عام ضابطا برتبة عميد وهو في عز عطاءه برغم انقطاعي عنه منذ تلك الرحلة الأروع في حياتنا كشباب قادمين من الصحراء ليروا لأول مرة في حياتهم الجبال المكسوة بالخضرة وشلالات المياه وعربات التلفريك في جبال بورصة والجبل ذات البرد القارس في عز الصيف، وكان حسين حقا يستحق لاحقا أن يكون ضابطا منذ أن دافع عن بلده ببسالة أمام سؤال ذلك الرجل التركي الذي أراد أن يسيء للمملكة فرد له حسين الصاع صاعين وأنقذنا من هزيمة السؤال منتصرين بفعل قوة المعرفة المبكرة.
تذكرت تلك القصة.. وأنا أتتبع ما تمارسه تركيا في عهد أردوغان وبالذات في منطقة الشرق الاوسط من سياسات اللعب على كل الحبال وهي التي كانت لعقود طويلة منعزلة عن الانغماس في سياسات المنطقة ونأت بنفسها عقودا طويلة حتى أصبحت أقرب لأن تكون أوروبية لولا أن رفض الأوروبيون أن تكون كذلك حتى الآن، وهي حقيقة دولة شبه أوروبية في طبيعتها وأجواءها وسحنة سكانها ونظامها العلماني... بل أنها البلد الوحيد الذي يملك جسرا معلقا يربط بين قارتي أوروبا وآسيا داخل حدود تركيا.
فتركيا العلمانية الاتاتوركية.. يحكمها حزب اردوغان الاسلامي الذي يفتخر في القاهرة بعلمانية تركيا ويخاطب حكم الاخوان المسلمين في مصر منظرا عن روعة النظام العلماني، وهو حر في ذلك وله الحق ان يفتخر بما يجعله مناسبا لحكم بلده، لكنه برغم علمانيته يعتبر في نظر الإسلام السياسي المعادي للعلمانية مجاهدا إسلاميا وبطلا وخليفة غير متوج.
وتركيا الإسلامية التي يتزعمها الحزب الاخواني الأردوغاني لها علاقة وثيقة جدا مع اسرائيل كأول دولة ربما إسلامية تعترف بإسرائيل حسب كلام زميلنا حسين وفي نفس الوقت تدعي أنها تدعم المقاومة في غزة.. وهي معادلة صعبة جدا أن يقف المرء بين صديقين ويقول لكل منهما أنه صديقه المفضل .
تركيا السنية.. تتحالف مع بعض الاحزاب السنية المتطرفة ضد الشيعة، وتتحاف مع ايران الشيعية ضد الاحزاب السنية المتطرفة، تحارب الأكراد منذ عقود وتسجن قائدهم وتتحاف معهم ليس لأجل إنقاذهم وإنما لتوريطهم في تخريب العراق، وترفض أن تمنحهم حق تقرير المصير كقومية مستقلة ومسلمين يحق لهم أن يستقلوا. وربما أنها تقول للايرانيين فلنتحالف ضد الوهابيين أو ضد السلفيين المارقين.. و تقول لبعض السنيين فلنتحالف ضد الشيعة الرافضة.
تركيا.. إسلامية بدون تمييز مذهبي في علاقتها مع إيران، وإخوانية لإسترجاع حلمها العثماني القديم كدولة إستعمارية للبلاد العربية، ودولة لادينية في علاقاتها مع الغرب حين تفتح شواطئها الجميلة لتتمدد عليها الأجساد الأوروبية الناعمة البيضاء ذوات الشعر الذهبي الأشقر. لكنها في كل الأحوال تلعب على كل الحبال لعبة ميكافيلية تضمن لها مصالحها حتى وإن كان الثمن المدفوع هو دم العربي أو ماله مادام أن هذا الدم يسفك بلا كرامة في كل مكان، والمال يسيل في كل الاتجاهات بدون مراقبة... وهي لعبة سياسية ذكية لم تفطن لها تركيا إلا متأخرة، لكنها قد تكون لعبة قاتلة لبلد جميل ومزدهر كتركيا لو تمادت في الإنغماس في الوحل الذي جعل من باكستان دولة فاشلة حين كانت ممرا للجهاد المسيس في أفغانستان!
وتفتح تركيا حدودها لكل المتطرفين والارهابيين للدخول الى العراق وسوريا ولبنان موحية لهم أنها المرجع السني الوحيد للمسلمين السنة، ثم تفتح قواعدها لضرب تلك الجماعات كمنظمات ارهابية.
وهكذا يبدو الخليفة غير المتوج اردوغان في ظل خلافة الخليفة المعلن ابو بكر البغدادي... علمانيا واسلامويا واخوانيا وسنيا شيعيا علويا كرديا.. وفي الأخير ينضم الى حلفه الأصلي والحقيقي الأطلسي.. ويوثق علاقاته مع صديقة تركيا العريقة اسرائيل غير مبال بداعش أو نصرة تدربت على أرضه ولا بغزة التي تدمرت بفعل الضربات القوية دون أن نسمع تهديدا قويا أو حتى نقدا ناعما من خليفة المسلمين الخفي وزعيم اخوانهم ضد سياسة البطش في غزة .. ومعه الحق أن يتعامل مع العرب بنفس الطريقة التي يمارسها كل السياسيين مع العرب حينما يعزفون على أوتارهم المذهبية والطائفية حفاظا على مصالحهم القومية.
صحيح أن أردوغان عندما حكم تركيا عبر صناديق الإقتراع بفكر عقلاني عصري إزدهر الوضع الإقتصادي والإجتماعي في تركيا حتى أصبح محط إعجاب العالم، لكن العقل الأردوغاني إغتر بذلك التفوق وعاد يفكر بعقلية الوالي العثماني بعد أن خدعه الإسلامويون العرب وحولوه إلى زعيم طائفي بعد أن إنتخبه الشعب التركي زعيما لكل أطياف الشعب التركي وتم تتويجه من قبل إسلامويي الإسلام السياسي العربي خليفة عثمانيا جديدا وهم يتقاطرون على المرابع التركية الجميلة، ينعمون بأجواءها ويتخذون منها معسكرا لتجنيد العوام والمساكين والحيارى، فبدأ اردوغان يدفع ثمن النكوص إلى الوراء ودخل في قضايا سياسية خارجية وداخلية هزت كيان حزبه ونظامه وسوف يكون لها أثرا سلبيا خطيرا على مستقبل تركيا إذا لن يتدارك الأتراك الوضع، ولو كنت محله لعدت بتركيا إلى ما قبل التورط في وحل العرب ورفضت التسلح بفكر الوالي العثماني وناضلت من أجل الإنضمام للإتحاد الأوروبي ومنعت دخول الموالين العرب لسياسات الطربوش والبخشيش والباشا حتى لايحولوا بلده الجميل إلى باكستان أخرى .
لقد أصبح الوضع العربي مغريا لكل من أراد أن يتاجر بقضايا العرب وإسلامهم على حساب مستقبل شعوب مغلوبة على أمرها تشعر بالهزيمة التاريخية وتبحث دائما عن منقذ.. لكنها شعوب غير ناضجة وتتجه في الإتجاه الخطأ لمن يحرك النعرات في عقلها المغيب عن التفاعل مع الحضارات لأنه محرم على ذلك العقل أن يفكر.
لكن الامر مع تركيا يختلف.. لأن الاسلامويين العرب لا يعيبون على اردوغان علمانيته المعلنة وهو يرأس بلدا علمانيا بدستوره وقوانينه... ولا يعيبون عليه علاقته الوثيقة بإسرائيل المحتلة للقدس وفلسطين وهو خليفة المسلمين الخفي في نظرهم. علما أن أولئك الإسلامويين العرب يحاربون كل صاحب عقل وفكر في بلدانهم بحجة الإنتماء الى العلمانية والليبرالية وغير ذلك من الإتهامات التي تعتبر من وجهة نظرهم إدانة لعربي وفعلا إيجابيا لأردوغان التركي .
&أن يكون أردوغان التركي علمانيا اخوانيا اطلسيا و صاحب العلاقة القوية مع اسرائيل: فذلك أمر بديهي وفعل إيجابي وبطولي وجهادي.. والويل ثم الويل لسياسي أو مثقف عربي لو قال أن الليبرالية ليست دينا أوكفرا وإنما هي نظام يمنح الحرية لكل الأديان والأفكار والمكونات كي تتعايش داخله !
[email protected]&
&