من تونس إنطلقت الشرارة الأولى بداية عام 2011م التي هيأت لاحقا لإنتفاضات الربيع العربي، ومن تونس خرجت الجماهير الغفيرة إلى الشوارع في تظاهرات سلمية، وأقامت في الميادين والساحات طوال النهار والليل لأيام تطالب بإسقاط النظام حتى أطاحت به، وأرغمت رأس النظام على مغادرة البلاد في ظاهرة غير مسبوقة على مستوى الوطن العربي في تاريخه الحديث. ثورة الياسمين – كما أطلق عليها – أشعلت وهج الحرية في عقول وقلوب باقي الشعوب العربية التي كانت تعاني من أنظمة حكم متسلطة ومستبدة أذاقتها طعم الإذلال والمهانة لعقود من الزمن. وعلى أثرها إنطلقت الشعوب في كل من مصر وسوريا وليبيا واليمن وبعض دول الخليج العربي مطالبة بإسقاط أنظمة الحكم القمعية والمستبدة، أو الإصلاح والمشاركة التي طالبت بها بعض شعوب دول الخليج العربي. هذه كانت المرة الأولى.

المرة الثانية كانت يوم الأحد، الواحد والعشرين من الشهر الحالي، حين قال الشعب التونسي كلمته وأختار رئيس بلاده عبر صناديق الإقتراع لأول مرة في تاريخه من خلال إنتخابات رئاسية حرة ونزيهة إتسمت بالشفافية والوضوح إلى حد كبير. هذه الإنتخابات التاريخية وضعت حدا لفترة إنتقالية إمتدت لحوالي أربع سنوات، شهدت خلالها تونس إضطرابات وتقلبات على كافة الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية. فقد تصاعدت الأعمال الإرهابية منذ بداية شهر ديسمبر 2012م بعد أن شكل الإرهابيون جيوبا لهم في أكثر من محافظة بهدف زعزعة الأمن وخلق الفوضى في ربوع البلاد، ثم تلتها الإغتيالات السياسية التي راح ضحيتها كل من المعارض اليساري "شكري بلعيد" في شهر فبراير 2013م، والمعارض القومي "محمد البراهمي" في شهر يوليو من العام نفسه.

في الديمقراطيات الحقيقية الكلمة الأولى والأخيرة للشعب صاحب السلطة الأعلى، والشعب التونسي (أغلبيته) إختار حزب "نداء تونس" ممثلا في رئيسه "الباجي قائد السبسي" السياسي المحنك ذو الـ 88 عاما. وفي إعتقادي الشخصي أن الشعب التونسي الذي عايش الفترة الإنتقالية لبلاده لحوالي أربع سنوات، وشاهد ما حدث في مصر وما يحدث في ليبيا حتى الآن، قرر أن من الأفضل له مواصلة العمل بنظام بو رقيبة بعد تنقيته من الشوائب الضارة التي لحقت به، والبناء عليه وتطويره. فنظام بو رقيبة أسس لمجتمع مدني قائم على طبقة متعلمة تعليما جيدا أفضل من كل الدول العربية (30% من ميزانية الدولة تخصص للتعليم في عهده)، وطبقة عمالية فعالة ونشطة حمت ثورة الياسمين من السقوط أو الإختطاف، وحقوقا للمرأة التونسية ليس لها نظير في الدول العربية بل تضاهي إلى حد ما حقوق المرأة في الدول الغربية. كما أن إختيار "السبسي" لقيادة تونس في هذه المرحلة الحساسة جاء نتيجة قناعة أغلبية الشعب التونسي بأن المحافظة على مؤسسات الدولة العصرية من الإنهيار خير ضمان للتونسيين، فالدولة هي الضمانة الوحيدة للجميع، وسقوطها يعني سقوط الجميع في هاوية الفوضى المدمرة كما يحدث في الجاره ليبيا للأسف الشديد.&

حزب "نداء تونس" أصبح حاليا مسيطرا على السلطتين التنفيذية والتشريعية وبإمكانه من الناحية الديمقراطية أن يحكم تونس بمفرده للأربع سنوات القادمة، ولكن في إعتقادي أن الحكمة والحنكة السياسية تتطلبان إشراك الأحزاب الأخرى في العملية السياسية. فتونس كما البلدان العربية الأخرى تعاني مشاكل جمة على كل الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وليس بمقدور حزب سياسي واحد مهما كانت قدراته على مواجهتها وحلها. وعليه، فمن الحكمة توسيع دائرة الشراكة في الحكم، وفتح الأبواب لكل ألوان الطيف السياسي دون تهميش أو إقصاء، والمشاركة في النجاح وتحمل مسئولية التقصير أو الفشل في الإنجاز.

بإقرارهم الدستور وإجراء الإنتخابات البرلمانية والرئاسية، يكون التونسيون قد أنجزوا الشق السياسي من العملية الديمقراطية وبقيا الشقين الآخرين وهما الشق الإقتصادي والشق الإجتماعي. في الشق الإقتصادي تأتي معالجة البطالة والفقر على سلم الأولويات عبر إقرار وتنفيذ سياسات إقتصادية وطنية وشفافة، تغري المستثمرين من الداخل والخارج، وتحفز وتنشط جميع القطاعات الإقتصادية، وتخلق فرص عمل للعاطلين من الجامعيين وباقي فئات المجتمع. فالفقر يهدر كرامة الإنسان ويذله، وهو الكفر بعينه، وهو المفجر الأول للثوارت والإنتفاضات في أغلب دول العالم. يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وصحبه): كاد الفقر أن يكون كفرا. ويقول الإمام علي (عليه السلام): لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته.

الشعب التونسي، أنتم أمل هذه الأمة في هذه الفترة التاريخية والمفصلية. والشعوب العربية تناشدكم وترجوا منكم المحافظة على هذه الديمقراطية الوليدة ورعايتها حق الرعاية حتى ترسخ في العقول والقلوب والقول والفعل والممارسة، وأن تضيفوا إلى القاموس السياسي العربي مصطلحا جديدا وهو: "الرئيس السابق، الذي أكمل مدة رئاسته الدستورية، وغادر قصر الرئاسة – الذي هو قصر الشعب – سليما معافى، وعاد مواطنا عاديا يتمتع بحياته وله كل الإحترام والتقديرعلى خدمته لشعبه. كما تطلب الشعوب العربية منكم أن تبنوا لكل رئيس تشرفوه بخدمتكم (بعد مغادرته كرسي الحكم) مكتبة أو مدرسة أو مركزا ثقافيا أو إجتماعيا يحمل إسمه، يذكركم به في حياته وبعد مماته، وتذكره الأجيال القادمة، كما هو الحال في الدول المتحضرة التي تحترم رؤساءها وزعماءها ومفكريها. وأخيرا أقول: أن نبدأ متأخرين خيرا من أن لا نبدأ أبدا. شكرا للشعب التونسي لتضحياته الجسام، وشكرا للجيش التونسي الذي وقف محايدا عندما تعلق الأمر بالدفاع عن رئيس (وصل للسلطة عن طريق إنقلاب أبيض في منتصف الليل) في مواجهة شعبه.&

آخر الكلام: لأول مرة في تاريخ العرب، يهنأ المرشح الخاسر نظيره الفائز. ولإول مرة لا يتهم المرشح الخاسر اللجنة المشرفة على الإنتخابات بالتزوير، وهذا يعد سلوكا حضاريا.&

&