مقدمة:
&
عندما يكبر أطفالنا ويصبحون قادرين على المشي، فإننا نضع الحواجز على السلالم حتى لا ينزلون من السلام وهم نائمون، فالطفل يحلم ويمشي في الحلم وينزل السلالم وهو نائم، وأحيانا يشرب الماء وهو نائم، فإذا بقي يمشي نائما قد يعود إلى فراشه، وإذا أستيقظ سقط من السلم أو بكى فيهرع الأهل لإنقاذه ولذا نضع أبناءنا في الأقفاص أو نسيج مداخل السلالم حتى لا يسقطون وهم يمشون في نومهم. كذا الحال يحصل مع كبار السن، فكبار السن في بيوت دور العجزة في البلدان المتحضرة يوجد عدد من الموظفين يراقبونهم عندما يمشون في نومهم. يمشون، وأحيانا يستيقظون فيبدأون بالصياح مثل الأطفال. عندما يستيقظ الشخص الكبير في السن يمسكه المراقب من يده وياخذه نحو السرير فيغفو ثانية.
&
الأطفال السائرون في نومهم لم يعرفوا معنى الدنيا بعد، ولم يدركوا ما ينتظرهم من الأهوال والمصائب سيما أولئك الذين كتب عليهم في دفتر القدر أن يولدوا ويعيشوا ويموتوا في بلدان الأهوال والمصائب. كبار السن السائرون في نومهم ينسون الأهوال والمصائب ويفقدون الذاكرة ولم يعودوا يدركوا معنى الحياة ولا معنى الموت الآتي!
&
السائرون في نومهم!
&
يمشون! عراقيون يمشون! عراقيون في مدن العراق يمشون! لا تسمع وقع أقدامهم على إسفلت الشوارع، فأصوات أبواق السيارات وصراخ الباعة وصياح سيارات الإسعاف وصفير سيارات حماية المسؤولين السياسيين وأعضاء البرلمان وسيارات رجال الدين وقادة الأحزاب السياسية ورؤوساء المليشيات كلها تحول دون سماع وقع أقدام الماشين وعابري الشوارع وهم بالملايين يمشون كما السائر في نومه!
&
يمشي الناس وليس في ذهن الواحد منهم حلم لسفرة يسترخي فيها من تعب الحياة ولا حتى في سفرة في مياه شط العرب في مركب أو زورق نحو بساتين النخيل التي إحرقت أعناقها منذ حقبة الدكتاتور وحتى إشعار آخر!
&
يمشي الناس في مدن العراق وليس في ذهن الواحد منهم حلم الإقتران بصبية قد لا يجمعهما النصيب فيكتب عنها قصيدة شعر أو يغني عنها الأبو ذيه!
&
يمشي الناس في مدن العراق بحكم الضرورة وبقدرة قادر، سائرون نحو مقرات عملهم، يصعدون السيارات، يجمع منهم مساعد السائق الإجرة، والسائق يدير مؤشر الراديو وتسمع سؤال من أحد الركاب هاي وين الإنفجار يجيب السائق بعيد في شارع السعدون وأنفجار آخر في بغداد الجديدة.
&
ينزل الركاب يتوزعون نحو مديرية التقاعد وزارة الثقافة وشهادة الجنسية والمستوصف وأحدهم يحمل كيسا من البرتقال لمريض يأن بدون مهدئات!
&
يمشي الناس بالضرورة، مخدرين بمخدر الضرورة وقدرة القادر. الذي ليس لديه مال للعلاج يتوجه نحو "باب الحوائج" طالباً الشفاء والرحمة. طبيب مرض المفاصل الشهير في الكاظمية تم خطفه من قبل أهل المدينة مطالبين بدفع فدية تساوي ما جمعه من المال طوال حياته. يجمع أهله ما يسمونه الدفاتر ويلقونها في حاوية للنفايات عنوان التسليم والتسلم. يأتي الخاطفون ويأخذون المبلغ ويذهبون إلى مقرات عملهم في مكاتب المسؤولين ومقرات القطط السمان، ليتأكدوا من صحة الدفاتر فيما إذا كانت تساوي المليون دولار مبلغ الفدية. ينجح طلبة العلم الجديد "علم الخطف" في مدارس الخاطفين الإبتداية والثانوية والجامعية، ينجحون في إمتحان الحساب بعد أن عدوا الدفاتر كاملة، فيمنح الطبيب حريته ويعود طبيب المفاصل إلى أهله في الكاظمية، يمشي كما السائر في نومه. يكتب لافتة على العيادة "للبيع" وعلى باب منزله "للبيع" ويقرر الهجرة تاركا شفاء مفاصل الناس إلى "أبي الجوادين" يشفي الناس عند باب الدروازة أو مدخل "باب الحوائج"!
&
يمشي الناس، يمشون ويمشون منذ الصباح ويعود الناس يعودون ويعودن كما السائر في نومه. يأكلون ثم ينامون ولا شيء غير ذلك.. حياتهم كلها غيبوبة كما السائر في نومه.
&
يمشي الناس وأمشي معهم متوجها نحو مقر شهادة الجنسية. لا أستطيع أن أتذكر التفاصيل، أتذكر أنني كنت أمشي مع ناس كثيرين يمشون في الشوارع يعبرون الشوارع. عباءات سوداء نسائية تتحرك خلف السيدات وعباءات قهوية خفيفة تتحرك خلف السادة، وهم يمشون وأنا أمشي ناسيا الحلم، ناسيا تماما حلم السفر وحلم المقهى وإرتشاف قهوة مرة حتى في بيت من القصب على ضفة نهر الفرات.. امشي مع الماشين بحكم الضرورة وقدرة القادر كما السائر في نومه!
&
جلس السياسي الديمقراطي العزيز يفكر في أن يعيد للناس مشيتهم الواعية. أن ينقذ الوطن في حلم الوعي ووعي الحلم!
&
دعاني للإجتماع.. تنادى لإجتماع لرموز وطنية وأخرى ثقافية في منطقة السيدية، يريد أن يعيد للناس مشيتهم في الوعي حتى يمشون مثل سائر البشر وليس كما السائر في نومه.
&
السيدات في المنزل أعددن طعام الغداء. والأم الحنون ترنو نحونا وتسمع منا كلمات الأمل. رددت "الله يحميكم يمه وينصركم والله راح أدعي لكم بالنجاح عند باب الحوائج" صحون الرز المباركة وطبخة البامية التي يشتهر بها العراقيون وصحن "الزلاطة" وقناني اللبن وسلة الخضروات والماء البارد. شعرت أني لو أكلت فسوف يأتيني النعاس وبالتالي لا أستطيع الكلام عن الوطن الجميل والوطن الحلم. وسوف أتحدث كما السائر في نومه في أمر يخص شؤون الوطن الخراب!
&
قلت لأتكلم قبل أن يدهمني نعاس اللبن.. قلت بكلمة واحدة "لا أمل!"
&
بقي الداعون ينظرون نحوي والأم إهتز الأمل في كيانها.. كيف لا. الوطن يحتاج إلى أبنائه البررة!
&
"لا أمل".. عنوان واحد لا غير. فالإصلاح وترتيق الحال من المحال، لأن الوطن مهترئ بأكمله والناس يمشون كما السائر في نومه!
&
وكيف الحل؟
&
إنتهى سادتي عالم الأحزاب وساد عالم المليشيات والقتلة والقطط السمان والوطن المجزأ وتجزئة المجزأ وتقسيم المقسم هو السائد. دخل الأجناب بلادنا من كل حدب وصوب. والناس يمشون ويمشون كما السائر في نومه. ولو شعروا أنكم جادون في الإصلاح فسوف يتم إختطافكم وترى من يدفع البدل النقدي لحريتكم!؟
&
لم يمض سوى وقت قصير حتى تلقى رئيس الحركة كتابا بالتهديد فذهب نحو المطار كما السائر في نومه وعاد إلى بريطانيا حيث كان يقيم وشاهدته يتحدث في التلفاز عن تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وسمعته يتحدث عن المحال!
&
سيداتي وساستي!
&
عندما يستيقظ الناس من غفوتهم ويمشون في حلم الوعي وفي وعي الحلم في مسيرة يمشي فيها حتى الكسيح والأبرص والأعمى والأطرش إلى جانب أصحاء الأبدان والعقول، أولئك المأخوذون بالوهم والمشي في المنام، يمشون بمسيرة ثانية مختلفة تماماً، قوامها ست وعشرون مليونا وأكثر وهم متوجهون ليس نحو بوابات المزارات طلبا للشفاء بل نحو بوابة عيادة الطبيب، ويخرجون أصحاء من داء المفاصل وهم متوجهون نحو المنطقة الخضراء فيهدون الحواجز الكونكريتية دون بيان مسبق من المكاتب السياسية واللجان المركزية يمشون وهم يصرخون صرخات الغضب تدوي في سماء الكون وتوقظ النائمين والماشين في نومهم، يدفعون بتلك الحواجز الكونكريتية الشاهقة العلو، فتنهار نحو جهة المنطقة الخضراء حتى يتغير لونها للأحمر، حينها سوف تسمعون نباح كلاب الحراسة الأمريكية وهي تحت الأنقاض وكلمات الإستنجاد الغريبة التي ربما لا تفهمون معانيها لكثرة وتشعب مفردات لغتها. حينها سوف يعيد أهل السنة وأهل الشيعة حساباتهم التاريخية، ويسقط تمثال السيد المسيح من أعلى البناية ويرتبك يحيى زكريا في مندائيته ومنداه ويعود المعدان إلى أهوارهم يحلبون الجاموس ويدخل الملا مصطفى البرازني دورة الأمية كي يتعلم كتابة إسمه على الورق، ونسمع أبناء الجيش العراقي من جنوبه إلى شماله وهم يرددون "اليس يم" حتى يعرفون يد الشمال من يد اليمين وقدم اليمين من قدم الشمال ويهرول سليمان ناظم باشا نحو الإستانة بعد أن يضرب فلقة في أسته، وتستتب الأمور ويعيد أهل الفرنجة حساباتهم في أهل الميجنة، حينها نبدأ عملية إعادة الحسابات في مقاولات البناء فنهدم سجنا ونبني مدرسة ومشفى، حينها لا نحتاج لتحقيق هذا الحلم إلى حزب جديد ولا نحتاج إلى مليشيا جديدة فنعيد فتح عيادة طبيب المفاصل المخطوف، ليشفينا من المرض العضال في المشي، داء المفاصل، فنمشي بكامل قاماتنا حتى نطال السماء!
&
فهل أنتم ماشون في هذه المسيرة أم ستظلون تمشون كل يوم كما السائر في نومه!؟
&
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
&
&
التعليقات