&

لا أعتقد ان هناك من كان يحلم بمسقبل زاهر للعالم العربي لم ينتش لمنظر خروج المارد من القمقم عام 2011 يزبد ويرعد ويثير الذعر والفزع في نفوس الفاسدين والظالمين، ما جعل بعضهم يفر بجلدته وآخر يستسلم لطلقات تائهة فترديه وثالث يمضي بقية حياته وراء القضبان وهكذا.

لا يراودني ادنى شك ان كل الذين كانوا ينتظرون اللحظة الحاسمة، للبدء بالعد العكسي لحل مشاكل شعوبنا غمرتهم السعادة عندما رأوا ان الجماهير تخرج في عام 2011 الى الشوارع كالموج الهادر، لايردعها الرصاص ولا الجنود المدججون بأنواع الأسلحة والعتاد، ولا حتى الدبابات والمصفحات.

&بمقدار ما كانت الصرخة المليونية التي أطلقها الشباب والشيوخ والاطفال (الشعب يريد أسقاط النظام) تدخل البهجة والسرور على قلوب المخلصين لأوطانهم فانها كانت تزلزل قصور الظالمين والفاسدين، وبالفعل تهاوت الكيانات الفاسدة بالصرخة المليونية، وغمرت الفرحة قلوب المضطهدين والمظلومين.

ولكن هل الأحداث التي تلت السقوط ويأتي في مقدمتها الذين تربعوا على كراسي الحكم كانت ما تريده الجماهير الثائرة، فهل هؤلا الذين حكموا هم أنفسهم الذين وضعت الشعوب آمالها فيهم، أم أن بين هؤلاء وبين من كان يحلم بهم الشعب بونا شاسعا؟&

لقد كان الربيع العربي رائع الجمال، وبالرغم من أنه اختلط ببحيرات من الدماء وأطنان من الآلام والآهات ولكنها في نفس الوقت كانت كآلام وجراحات الولادة التي سرعان ما تهدأ وتلتئم بأول صوت يخرج من فم وليدها، ولكن ياترى هل الشعوب الثائرة تحملت الآلام والجراح والمئات من الضحايا ليعيشوا وضعا أسوأ من الوضع السابق؟

ليس هناك من خرج الى الشوارع متحديا كل الاخطار المحدقة به، كان يريد أن تحل الفوضى العارمة محل الأمن والاستقرار (وان كان نسبيا وجزئيا) ولا لكي تغيب الخدمات حتى وان كانت ضعيفة، ولا أن ينفلت معدل التضخم عن عقاله وتتبخر السلع الضرورية من الأسواق، ولا أن يصحو على تفجير مدو ثم يتلوه آخر في الضحى وثالث في الظهر ورابع عصرا وخامس في الليل وهكذا تمضي كل أيامه.

شئنا أم أبينا فان هذه الفوضى الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تزامن ظهورها مع ثورات الربيع العربي، ولكن هذا لا يعني بتاتا انها الوليد الشرعي له، بل على العكس فان الربيع العربي هو الوليد الجميل لحمل طبيعي امتزج بالام ومعاناة استمرت بعضها عقود، غير أن هذا الوليد الجديد لم يتم توفر الغذاء والبيئة المناسبة لنموه، لذلك لم يأت ثماره.

تزامن ظهور التطرف الديني الذي أولد داعش وأخواتها، وظهور النعرات الطائفية بعد عام من انطلاق ثورات الربيع العربي، وتعاضدت عدة عوامل جعلت ظاهرة النعرة الطائفية والتطرف الديني تبرز الى السطح، وتأتي في مقدمة هذه العوامل هي عدم أهلية الذين أمسكوا بزمام الأمور بعد ثورات الربيع العربي، فنتيجة لسياساتهم اطلق العنان للمتشددين دينيا ليفعلوا ما يشاؤوا، ثم ظهرت النعرات الطائفية.

التشدد الديني والنعرات الطائفية ليست وليدة اليوم ولا السنوات الأخيرة وانما كانت منذ قرون وظهرت أحيانا كحركات منظمة ولكن ما نشهده اليوم، خطر داهم يفزع الجميع.

أما العامل الآخر، فهو الأيادي التي شاءت دفع ودعم داعش وأخواتها وكذلك النعرة الطائفية لكي تنفجر الفوضى، وما كانت ترمي اليه هذه الأيادي توجيه رسالة غير مباشرة لكل الشعوب التي تحلم بالربيع العربي انها اذا فكرت يوما باطلاق ربيعها فسيكون مصيرها كمصير من جرب الربيع العربي وكانت الحصيلة المزيد من الدماء والانفلات الأمني والتضخم الاقتصادي.

واضح ان هناك من يدفع الأمور لتوسيع الأزمات وتعقيدها وعدم حلها ليكون هو ومصالحه في منأى عن حدوث أي تغيير أو ثورات أو ماشبه ذلك، وربما نجح هؤلاء في تحقيق ما سعوا اليه، ولكن ما حدث يجب أن يكون عبرة للجميع وخاصة للحكومات، بأن الشعوب اذا تحركت فلن يقف امامها شيء، وهذه الشعوب لا تريد شيئا مستحيلا، بل غاية ما تريده هو ان يكون الحكام عادلون ويحلوا مشاكل الشعب لا أن يقوموا بمضاعفتها وتعقيدها.

الشعوب لا تريد الفوضى ولا التطرف الديني ولا ربيع في الظاهر ولكنه خريف في الباطن، وانما تريد على الدوام أن تتغير أوضاعها نحو الأحسن، واذا فعلت حكوماتها ذلك فبها، والا فلن يكون هناك خيارا آخرا غير الانفجار.

&