النصوص وحدها لن تحل مشكلات البشرية مهما امتلأت هذه النصوص بالحق والحكمة والعدل والخير.
المواثيق الدولية لحقوق الإنسان زاخرة بالمبادئ الأخلاقية الراقية التي تضمن للشعوب حياةً كريمةً آمنةً، لكن المحصلة العملية هي عالم تمزقه النزاعات والحروب ويموت الناس جوعاً وفقراً ومرضاً!
لا يجد الناس صعوبةً في أن يصوغوا المبادئ البراقة وأن يعللوا أي فعل بمبررات أخلاقية، لكن ما يحكم أفعالهم بعد ذلك هو طبائع نفوسهم وقراراتهم الداخلية وليس النصوص النظرية.
وما ينطبق على الدساتير البشرية ينطبق حتى على النصوص الإلهية، فالنص الإلهي لا يغير الإنسان بمعجزة، بل إن الإنسان يمتلك قابليةً عجيبةً لتحريف الكلام الإلهي عن مواضعه ليشرعن إفساده وظلمه وإجرامه ويطلق العنان لرغبات نفسه لكن بجريمة مضاعفة: جريمة الظلم ذاته، وجريمة الكذب على الله بالزعم بأنه هو الذي أمره بالظلم والفساد: " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون".
في سياق معالجته لأمراض التدين البشري يفرد القرآن مساحةً واسعةً لمشكلة "تحريف الكلم عن مواضعه"، وتحريف الكلم عن مواضعه ليس المقصود به التفسير الشائع عند كثيرين بأن اليهود والنصارى كانوا يبدلون كلمات وأحرف كتبهم، بل إن التحريف كما قال ابن عباس: "هو فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم"!، وهذا المرض ليس خاصاً باليهود والنصارى وحدهم، بل هي مشكلة ثقافية عامة تقع فيها كل الأمم، وبهذا المعنى فإن المسلمين أيضاً وقعوا في مشكلة تحريف الكلم من بعد مواضعه في علاقتهم بالقرآن الكريم فأساءوا تأويل كثير من النصوص لتتوافق مع ثقافتهم، وكثير من النصوص يتلوها المؤمنون للتبرك بها لكنها مغيبة من حياتهم وغير فاعلة اجتماعياً لأن سلطان الثقافة أقوى من سلطان النص.
يؤكد القرآن بشكل لا لبس فيه أن مشكلة الأمم لم تكن يوماً في قلة النصوص التي تدعو إلى الهدى والنور بل في مواقف هذه الأمم من كتبهم، والقرآن يثني على التوراة والإنجيل فيقول في سورة المائدة: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ"، ويدعو النصارى إلى الاحتكام إلى الإنجيل: "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ"، كذلك يدعو اليهود للاحتكام إلى التوراة: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، والملاحظ في هذه الآيات أنها دعوة لليهود والنصارى المعاصرين للنبي محمد عليه السلام بأن يحتكموا إلى شرائعهم، أي أن القرآن يقر بشرعية كتبهم حتى بعد نزول القرآن، كما يلاحظ أن مشكلة اليهود لم تكن في تحريف كتابهم إذ كيف يدعوهم القرآن للاحتكام إلى كتاب محرف!! بل هي مشكلة نفسية تمثلت في الإعراض والتولي عن الحق، أي أن المشكلة هي في الموقف من الكتاب المقدس وليس في الكتاب المقدس ذاته.
ومما يؤكد هذا الفهم آية سورة المائدة: " لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"، هذه الآية فيها إقرار واضح بحقيقة تعدد الشرائع والأمم، وفيها أمر إلهي لعباده بأن يتجاوزوا حقيقة اختلاف الأمم والشرائع وأن يتسابقوا في فعل الخيرات.
إن أي كتاب سماوي لن يخلو من المبادئ الأخلاقية الأساسية، فالتوراة والإنجيل والقرآن كلها تشترك في تحريم الكذب والغدر والإفساد في الأرض والقتل ودعوة البشر إلى الاستقامة الأخلاقية والإحسان وفعل الخيرات، لكن كثيراً من أتباع هذه الشرائع هم أبعد ما يكونون عن الاستقامة والصلاح، وهو ما يؤكد من جديد أن النصوص مهما بلغت قداستها فهي لن تحمل الإنسان قهراً على الاستقامة ما لم يكن لديه استعداد داخلي، والقرآن يقول: " إن نشأ ننزل عليهم آيةً فظلت أعناقهم لها خاضعين" أي أن الله كان قادراً على إجبار الناس على الاستقامة تماماً كما جعل حاجاتهم العضوية جبريةً لا يملكون مقاومتها، لكن مقصد الكتب السماوية اختبار الناس وليس إجبارهم.
إن مشكلة البشر ليست في قلة النصوص التي تدعو إلى العدل والخير بل في قابلياتهم النفسية والثقافية التي تتعطل فتقيم الأكنة وتصم الآذان وتعمي الأعين عن أعظم الهدايات وقالوا ما نفقه كثيراً مما تقول وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، والقرآن ذاته لا يزيد الظالمين إلا خساراً لأنهم قد اتخذوا القرار المسبق بأنهم لن ينتفعوا بهداه!
إن المعلم يبث إشارات راداره فلا يلتقطها إلا من أصغى السمع وهو شهيد وضبط جهاز استقباله الداخلي، أما الآخرون فلن تعني لهم هذه الإشارات شيئاً بل ستزيدهم عمىً وصمماً.
يتعمق القرآن في النفس البشرية فيتحدث عن الذين ينظرون وهم لا يبصرون وعن الذين يستمعون وهم لا يعقلون: " وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ* وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ " لقد تعطلت راداراتهم فلم تعد تستقبل موجات الهداية المبثوثة في الأثير!
من يملك الاستعداد القلبي للهداية فسيكفيه القليل من النصوص، وقد كان المؤمنون الأوائل يؤتون الإيمان قبل القرآن، أي أن المعاني التي تتنزل في القرآن قد تحققت فيهم مسبقاً حتى قبل نزول الآيات، أما من عطل جهاز الاستقبال الداخلي وجعل على قلبه أكنةً فلن تكفيه كل الآيات للإيمان: "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها".
إن غاندي على سبيل المثال لم يعتكف عشرات السنين ليطالع ما كتبه الفلاسفة والكتب السماوية حول أهمية تحقيق السلام بين البشر، بل كان حبه الداخلي للسلام بين البشر محركه الأول، وفي المقابل تجد من يقضون أعمارهم في قراءة آلاف الكتب لكنها قراءة باردة غير محركة لا ينتج عنها عمل نافع للناس.
ولأن الله تعالى يعلم أن الجدل في النصوص لا يحل مشكلات الناس فهو قد حذر من الذين يبحثون عن متشابهات الكتاب ويتركون المحكمات: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب"،، إن الآيات المحكمات هي المعاني المستقرة الثابتة التي لا يختلف فيها الناس، فالعدل والإحسان وفعل الخيرات هذه آيات محكمات يتبعها من صدقت نيته في الهداية، أما الذين في قلوبهم زيغ فهم يظهرون حرصاً على الدين لكنهم بعيدون عن رسالته حين ينشغلون بالجدال في النصوص المجتزأة ويتركون الآيات المحكمات، فهؤلاء كاذبون لا يريدون هدايةً إنما يريدون الضلال والإضلال.
إن الدعوة إلى التعارف والسلام والإحسان والتوقف عن القتل وسفك الدماء من الآيات المحكمات، فهل نترك هذا الهدف العظيم وننشغل في آيات متشابهات تتناول سياقات استثنائيةً لا يمكن أن تكون أصلاً في الدين والحياة إلا لمن تعمد البحث عن الزيغ وأولئك هم الكاذبون!

كاتب فلسطيني