قاسم حول

مقدمة :


قبل سنوات اجريت" مزايدة" في العاصمة الأردنية عمان للحصول على عقود الهواتف النقالة من قبل شركات الهواتف للأستثمار في العراق "بلد الإستثمارات الأهم في العالم"! والغريب أن الذين حضروا جلسات المزايدة إضافة إلى وزير المالية، الناطق الإعلامي بإسم رئيس الوزراء ومستشار الأمن القومي ومسؤولي حمايات بعض الوزرات، وفازت بعض الشركات في الحصول على العقود! وخلال عامين كان المواطن ضحية سرقات عبر بطاقات الهواتف النقالة بلغت مئات الملايين من الدولارات لصالح شركات تلك الهواتف النقالة. ثم تناقلت الأخبار أرصدة وعقارات المشاركين في تلك المزايدة، أبراج في دبي ومصانع أقمشة في سويسراَ ومطاعم وفنادق في عمان وكذا في بريطانيا!

القاعدة المادية للإنتاج السينمائي:

عام 2009 كنت أصور فيلم "المغني" في مقر القصور الرئاسية في البصرة فزارني أحد وكلاء وزير الثقافة في منطقة التصوير. ثم طلب أن نجتمع وإجتمعنا في مقر إقامة رئيس الوزراء في داخل منطقة القصور الرئاسية وأستغرق اللقاء من الساعة السابعة مساء حتى الحادية عشرة ليلا. وكان اللقاء يدور حول قانون الثقافة وقانون الإعلام، وبناء القاعدة المادية للإنتاج الثقافي والسينمائي في العراق. طلب مني السيد الوكيل دراسة لواقع السينما في العراق وبناء القاعدة المادية للإنتاج خدمة للوطن وكذلك قانوني الثقافة والإعلام. وأعطاني بطاقته التعريف وفيها ارقام الهواتف النقالة "الموبايل" وقال لي حال أنجاز الدراسة أتصل بي على أحد هذه الأرقام!
نعم، فما أجمل أن يخدم الإنسان وطنه!
وما أسهل الإتصال بعد أن أنجز العلم الهواتف النقالة!
عدت إلى هولندا وكنت كتبت في السابق قانون الثقافة وقانون الإعلام بالتعاون مع رجال قانون وقضاة عراقيين. وكان الهدف أهدائهما للوطن الغالي. وبدأت أكتب في الدراسة السينمائية وبناء القاعدة المادية للإنتاج الثقافي والسينمائي في العراق ومنها مدينة للسينما، وكانت الدراسة صعبة وفيها تقنيات حديثة وتحتاج إلى خبراء. عندي صديق عملت معه في قناة بأسبانيا وإسمه "أرماندو" وهو مهندس الكتروني وخبير قنوات تلفزيونية وكاميرات في أسبانيا. إتصلت معه وقال لي هذا يحتاج إلى وقت والأفضل لو ألتقينا فالهواتف النقالة لا تحل المشكلة. حملت نفسي وذهبت إلى "ماربيا" في أسبانيا حيث يقيم ومكثت أسبوعا وأنجز لي الرجل المهمة التقنية وساعدني في الهيكلية العملية العلمية والواقعية. عدت إلى هولندا. وحاولت أن أتصل بالسيد وكيل الوزير لأخبره بأنني أنجزت المطلوب، ولكني لم أتلق ردا من الهواتف. سألت عن هواتف السكرتارية وحصلت عليها ولم يرد أحد على الهواتف. حصلت على رقم هاتف أبنه النقال ولم يرد على الهاتف.
كانت الردود على الهواتف تأتيني مقاطع من مقرئ حسيني " يندب إستشهاد الإمام الحسين عليه السلام عطشانا عند نهر العلقمي" وبعدها يأتيني الصوت "المشترك لا يرد يرجى إعادة المحاولة ثانية" ثم حصلت على هاتف سيدة سكرتيرة لوكيل وزير آخر في ذات الوزارة، عسى أحصل على طريقة لإبلاغ السيد الوكيل المعني بأني أنجزت المطلوب فجاءني صوت المقرئ الحسيني شجيا "يندب إستشهاد الإمام الحسين عليه السلام عطشاناً عند نهر العلقمي"
وفي معرض الحديث مع السيد السفير في هولندا حدثته عن المهمة التي أنجزتها للوطن الغالي فشكرني وقال لي أبرقها لنا ونحن نرسلها عبر وزارة الخارجية.
أبرقت قانوني الثقافة والإعلام وتركت الدراسة عندي لحين أسلمها باليد للسيد الوكيل، وشعرت بالراحة فما أحلى أن يخدم الإنسان وطنه الغالي!
بالضبط مر عام على إبراق القوانين للسفارة. رن هاتفي النقال وجاء صوت السكرتيرة في السفارة وهي تعتذر مني أن قانون الثقافة قد فقد من الحاسوب وعندهم فقط قانون الإعلام، ونحن محرجون في عدم إرسال القانونين للعراق وطلبت مني إعادة إرسال القانون المفقود. أندهشت لماذا لم يكن الإعتذار وقتها ولماذا بعد عام. فأرسلت لها الملفين من جديد!
مضت ثمان شهور على تسليمي الدراسة والقوانين للسفارة. فعادت الدراسة والقوانين من العراق وأبلغت بأن الوزارة لا تستفيد من القانونين ولا علاقة لها لا بقانون الثقافة ولا بقانون الإعلام، وأرسلوا لي كتاب الوزارة بهذا الصدد، لأكتشف بأن السفارة لم ترسل القوانين إلى وزارة الثقافة بل أرسلتها إلى وزارة التربية والتعليم العالي. ولم يفهم السيد وزير التربية والتعليم العالي شيئا من الملف فأحاله لوكيله الذي بدورة لم يفهم علاقة الوزارة بقوانين الثقافة والإعلام، فأحال الملف إلى السيد المدير العام الذي بعد أن عجز عن فهم العلاقة بين وزارته وقوانين الثقافة والإعلام، أحال الملف إلى رئيس الجامعة والذي كتب يقول لا علاقة للجامعة بهذه القوانين فطلب السيد الوزير إعادة الملف إلى السفارة العراقية في هولندا لعدم الحاجة إلى مثل هذه القوانين. وبدلا من أن تسكت السفارة وتصحح الخطأ فقد تم إبلاغي بالنتيجة "أن الوزارة لا علاقة لها بهذه القوانين"! وأبرقوا لي رسالة وزارة التربية، معتقدين حتى تلك اللحظة أنهم قاموا بما ينبغي عليهم القيام به، ولكن القوانين ليست مفيدة للبلد!
قررت الذهاب إلى بغداد لمراجعة أوراقي التقاعدية وقلت لأعرج على وزارة الثقافة وأسلم السيد الوكيل القوانين والدراسة باليد عسى تفيد وطني الغالي وما أحلى أن يخدم الإنسان وطنه!
حاولت أن أطلب موعداً للقاء الوكيل ووقعت بنفس إشكال الهواتف. صوت المقرئ الحسيني وهو "يندب إستشهاد الإمام الحسين عطشانا عند نهر العلقمي". والمشترك لا يرد"!
ذهبت للوزارة بدون موعد ودرجة الحرارة تفوق الأربعين، وطلبوا مني تسليم هاتفي النقال عند إستعلامات الوزارة فأخذه الموظف وأعطاني بطاقة عليها رقم ورمى هاتفي في سلة فيها هواتف كثيرة. تمكنت بعد جهد جهيد ومكاتب إستعلامات وسكرتارية وغرفة حماية وغرف إنتظار من لقاء السيد الوكيل وكان أمامه على الطاولة هاتفان يبدو أن أحد الهاتفين للرد على المسؤولين والثاني لعدم الرد لغير المسؤولين. كان الهاتف الثاني يرن، وينظر إلى الرقم ثم ينقر على الإيكونة ويوقف المكالمة. كنت أشعر بأن شخصا مثلي على الجانب الآخر من الخط كان يستمع للمقرئ وهو "يندب إستشهاد الإمام الحسين عليه السلام عطشانا عند نهر العلقمي". لم أتأخر كثيرا في المكوث في ديوان السيد الوكيل فذكرته بلقائنا في البصرة قبل أكثر من ثلاثة أعوام حين طلب مني قوانين ودراسة سينمائية، قال لي أتذكر ذلك فسلمته الملفات ورماها على الطاولة وقلت له إستأذن قال أنتظر نضيفك فنجان قهوة أو إستكان شاي قلت له "الطبيب منعني من المنبهات والمسكنات" وغادرت!
وفي غرفة السكرتارية سألني السكرتير أن شاء الله كل شيء تمام!؟ أشرت له بيدي مودعا. وفي غرفة الحماية وأنا مغادر سألني المسؤول إن شاء الله خلصت معاملتك!؟ أشرت له بيدي مودعا. وصلت إلى إستعلامات الوزارة الذي يضم تقريبا سبعة موظفين. أعطيت الرقم للموظف وكان يسألني وهو يبحث عن هاتفي في السلة. إن شاء الله راح تقيم بالعراق! زوجتك عراقية لو هولندية! نحن فخورون بك! هل ستعود لديوان الوزارة أم تعمل في مؤسسة السينما؟!
كانت الهواتف في السلة ترن بأنغام مختلفة، هواتف كل المراجعين الذين دخلوا الوزراة وهي تتململ مثل فراخ القطط المولودة توا تتحرك وتموء وترتجف وترن وبالتأكيد كان على الطرف الأخر من يستمع للمقرئ الحسيني وهو يندب على الهواتف النقالة إستشهاد الإمام الحسين عطشانا قرب نهر العلقمي والمشترك لا يرد!
أخذت هاتفي النقال وصوت الموظف يقول لي بالتوفيق أستاذ ... أشرت له بيدي مودعا دون أن أقول شيئا!
تساءلت وأنا أبتعد عن مبنى الوزارة:

عند ضفة أي نهر سأموت أنا عطشاناً؟!
وعند ضفة أي نهر أروي ظمأي؟!

&
&