ماذا سيخسر العراق من سياسات العبادي المتأنية حتى الان؟!
سؤال يطرح نفسه على هامش انتقادات كثيرة لما اشتهر بانبطاح "حيدر العبادي" امام الشركاء من قوى سنية وكردية وايضا شيعية، فضلا عن اتهامه بالتهاوي عميقا في التنازلات بزياراته البلدان المتورطة بالإرهاب في العراق او متهمة بذلك...
خلال السنوات الاربع الماضية، تعمقت السياسات المتصلبة، وتأزمت العلاقات بين الفرقاء أكثر مما كانت عليه. نوري المالكي تحاشى احتواء أي طرف، بل تعمد الخصومات. وفي المقابل كان إيقاع اغلب خصومه شغوفاً بالتوتر، لتتكثف النيران السياسية المتبادلة، مفتوحة على كل الاطراف، والذرائع دائما متوفرة. طبيعة المالكي لا تعرف التهدئة. ربما نجح أحيانا في اللعب على تناقضات الخصوم، مؤجلاً بعض الخصومات عند الانشغال بطرف عاجلة خصومته. الا أن الجبهات أبقيت مفتوحة، والعداوات ظلت مثيرة للسخط ومنعت امكانية لعب السلطة لدور ايجابي يوجِد بيئة سليمة. وبذلك غذّى النزعة العدوانية لدى الاخرين بنزعته العدوانية.
الخسارة فادحة، أمكن تخفيفها بسياسات خدمية واقتصادية ومجتمعية تؤهلها مداخيل مالية ضخمة، وهو ما لم يحصل. ولأنه فاقد لمقومات الاستمرار (أزمات مفتوحة ـ فشل في الادارة)، اعتمد رئيس الحكومة السابقة للمحافظة على قوته وشعبيته، على التجييش في شارع مقسوم، ومجتمع متحفز في ظروف استثنائية. ضيّق على نفسه الامور بخيار وحيد "عمِّق المخاوف الحقيقية وغير الحقيقية، واطرح نفسك المطمئن الوحيد لها".
في ظل هذا الوضع، يفترض بالسياسة البديلة ان تتحاشى منهجية التصعيد، بعد أن بانت نتائجها الوخيمة. العبادي حتى الان يقدم نموذجاً آخر، وكأنه يضع أمام كل خطوة صورة سلفه المتصلبة، ويعكسها. قد لا ينتج هذا ثمارا طيبة في كل القضايا، لأن الامر يستدعي تنويع الاساليب في التعامل مع الوقائع والازمات، ولأن الشركاء لا يقلون سوءا عن المالكي في التصلب وعدم القدرة على العمل الا في بيئة مأزومة. الا أنها نافعة لتخفيف التشدد الحاكم لدى كل الاطراف.
ايضاً، المتوقع من السلطة، أي سلطة، ان تمتلك زمام مبادرة توفير الاجواء المناسبة للتفاهم، تعتمد على الفعل وليس رد الفعل. المعارضة هي التي تقوم بردة الفعل. وان انقلبت الامور وبات المعارضون فاعلين والسلطة منفعلاً، عندها لا يمكن الاعتماد على الحكم والثقة به، وتؤول الامور لتضيّع البلاد بوصلتها، وتفقد القدرة على معالجة المشكلات، كما حصل في الدورة الماضية. فاحتواء الخسارات القديمة ومنع أخرى جديدة، الخطوة الاولى المفترض اتخاذها قبل أي فعل آخر. مهم جدا أن عودة المبادرة ليد الحكومة، بعيدا عن المنهجية التقليدية للسياسة العراقية المستندة على تصعيد الازمات والانفعال بها. التصلّب، يعمق من الازمة، يشببها وليس فعلا معاكسا لها.
الخسارات موروثة من هذا التصلب، وحتى اللحظة لم يخسر العراق من سياسة رئاسة حكومته الحالية، سوى في قضية واحدة. هي الى جانب رئاستي الجمهورية ومجلس النواب، تحاول الاستفادة من الدعم الخارجي معتمدة على توازنات اقليمية ودولية دقيقة. تظهر عليها رغبة تجاوز الوضع المربك بأقل الخسائر. توزع الملفات ولا تركزها بيد طرف واحد، ليتشارك الكل علانية في الخسارة إن حصلت. ولأن الامر الواقع يقول ان البلاد مقسمة طائفيا، وان الجغرافيا محكومة بثلاثية شيعي سني كردي، يبدو مهما وضع الطوائف الثلاث أمام مسؤولياتها، سواء المتصلة بالصراعات الداخلية، أو بالاراضي المتنازع عليها. هذا لا يعني اغفال دور الحكومة الاتحادية، بل يعني أن لا تكون وحيدة في ميدان يراد أن تخوضه فإن فشلت تدان، وكأنها عملية استدراج تحقق المكاسب لممثلي المكونات ربحت الحكومة ام خسرت!.
الخسارة جاءت في بنود الاتفاق مع كردستان، على اعتبار أنه تنازل كبير. لأنه لا يعد تنازلا متبادلا، بل من طرف واحد، وانه مكسب مالي ونفطي غير عادل لحكومة كردستان على حساب الحكومة الاتحادية. ولم يكن عادل عبد المهدي شفافاً في الكشف عن ابعاد الاتفاق. غير أنه من جانب آخر، المتاح الوحيد اليوم. المركز يفتقد للقدرة على القيام بأمر آخر، في ظل سياسة الأمر الواقع المفروضة منذ إعلان مسعود البرزاني سيطرته على كركوك، وما يمكن أن تقوم به الجبهة السياسية الكردية من تعطيل وإرباك للواقع في بغداد، مستفيدة من قوى سياسية شيعية وسنية و"علمانية" متحالفة معها، كالمجلس الاعلى ومجموعة اسامة النجيفي في كتلة متحدون وائتلاف الوطنية.&
خارجيا، لا يمتلك العراق متاحات للحد من نفوذ تمارسه دول اقليمية. عنصر القوة الرئيسي في مواجهة الدول الكبيرة المحيطة، والمتمثل بوحدة الجبهة الداخلية، مفقود. لذا ليس ناجعاً الاعتماد على التصعيد او القطيعة، مثل هكذا منهجية تتخذها دول منسجمة السياسات ذات جبهة داخلية موحدة، وليس بلدا مفككا، تحكمه اهواء حزبية. السياسة الخارجية يجب ان تنبع من قاعدة أن العراق دولة ضعيفة، بعيدا عن أوهام العظمة التي لا تشبه الوضع الراهن.
وبالمجمل، ان اطلاق الاحكام النهائية والباتة يحتاج وقتا أطول، لأن العبادي ايضا جزء من منظومة الفشل خلال العقد المنصرم، خصوصا مع استحقاقات تأتي تباعا وتحدد مسار الامور ومعرفة مديات الكفاءة لمواجهة الازمات. الا أن وصف ما اتخذ من خطوات حتى الان بالانبطاح، ليس دقيقاً. وكأنه يسوّق بديلا عن مفردات خيانة وعمالة وغير شريف وغير وطني... الا إذا كان معنى الانبطاح هو كل سياسة تعتمد التهدئة.
&