كنا نحسب أن ثورة الاتصالات والإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، كفيلة بأن تكون لشباب هذا الجيل، نافذة على العصر وأفكاره ومفاهيمه. لكن الحقيقة أن تردي مستوى التعليم المصري، أدى لإنتاج شباب غير قادر إلا على تلقي وابتلاع ما يقدم له، والقليل النادر منهم فقط، من يستطيع الوقوف على قدميه، ليفهم ويتفهم ويحلل ويقارن. هكذا فالنتيجة النهائية لهذا الجيل، ومعه بالطبع كل من سبقه من أجيال، تكاد أن تكون "لم ينجح أحد"!!
الأجيال التي لم تتعرف على حرف واحد من مقرراتها الدراسية، إلا عبر المدرس الخصوصي، الذي لا يتولى عملية الشرح للمقررات، ليستوعبها التلميذ بعقله، وإنما يقوم بحشو الرؤوس بإجابات جاهزة يستظهرونها أو يبتلعونها، من منطقي أن نرى هذه الأجيال، إذا ما طالبت بالحرية، فإنما لتنتقل من مدرس ملقن، إلى ملقن آخر، لا يندر ولا يتصادف أن يكون الأسوأ. وهذا ما نشهده من الشباب المصر على الثورة المستمرة، أن راح إلى تجار "الشعارات العروبية والاشتراكية" البائدة، وفشلوا في مغادرة الكهوف العتيقة، إلى رحابة أنوار وأفكار العصر الراهن. لا نذهب هنا إلى الاستشهاد على العقم، بظاهرة تبني الشباب "الشعارات العروبية والاشتراكية"، لرؤيتنا السلبية لها فحسب، ولكننا بالأساس نرى ذلك، من قبيل العجز عن استشراف رؤى جديدة، غير تلك السائدة بالساحة، والتي كما يقال "شبعت فشلاً". هو العجز عن رؤية الجديد، والذي ربما صاحبه أيضاً التخوف منه، كما يتخوف القابع في زاوية كهف مظلم من مغادرته، إلى الأفق المتسع، والنور المبهر لعيون كليلة. نسقط بالطبع من اعتبارنا هنا، الشباب الذي اختار الانكفاء على الرؤى العتيقة الظلامية، لأمثال أبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب.
حتى الشباب الذين بدأت وسائل الإعلام تعرضهم لنا، بعد أن علا صوتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، معلنين إلحادهم، هؤلاء كان لديهم من الأسباب والعوامل، التي دفعت بهم للمجاهرة، رفضاً للفكر الإيماني التسليمي السائد والمتوطن، دونما مقدرة في الأغلب الأعم، على تشكيل رؤية جديدة لعالم جديد، يقوم على أسس ومحاور، غير تلك التي يرفضونها بعصبية وتشنج. هم لا يعرفون عن العالم وعن أنفسهم، غير الصفة التي يقدمون أنفسهم بها للمجتمع الآن، وهي أنهم مجرد "ملحدين". دون أي إضافة إيجابية، يمكن حتى أن تعادل لدى المجتمع، حالة الفزع ممن يكسرون تابوهاته، ويحطمون أهم وأغلى ثوابته. هم أيضاً ومع كل الاحترام لتضحياتهم المجتمعية، وجرأتهم على الاقتحام الفكري، لا يقدمون للمجتمع أي تصور، لحياة أفضل يمكن أن تلي مواقفهم العنترية هذه، كما لو كانوا بالفعل من عناهم "سرفانتس" في روايته الخالدة "دون كيخوتة". فأي خواء أكثر من التمحور حول ما يعده المرء وهماً، وكأنهم مازلوا محشورين في زمرة المؤمنين، لكن باتجاه عكسي. فأنت تستطيع ولو بقدر من التجاوز، التعرف على هوية وفكر "المؤمن"، عبر تبين محتوى ما يعتبره نصاً مقدساً، لكن ماذا يستطيع أن يعرف المجتمع عن ميول وأفكار هؤلاء "الملحدين"، غير أن ينسب لهم، كل ما يعتبره شيطانياً، من فكر وأخلاق وسلوكيات؟!!
هتف ثوار 25 يناير ضد الفساد المالي والسياسي، دونما إدراك بأن ما يهتفون ضده، هو المحصلة للفساد السلوكي والفكري، الذي يشمل الجميع، حكاماً ومعارضة وعامة. هتفوا طلباً لعدالة توزيع الثروة، بظن أن "مصر كلها خير، والحرامية سارقينها"، فهذا ما اعتدنا جميعاً دون ذرة وعي على ترديده، جاهلين أو متجاهلين أن الأمم تنهض بالأساس، عن طريق تعظيم ثرواتها، عبر الجهد الدؤوب من القاعدة الجماهيرية العريضة، وليس فقط زمرة الحكام، وأن عدالة التوزيع وحدها، لن تكون أكثر من توزيع الفقر بالتساوي بين الجميع، كما كانت اشتراكية عبد الناصر. لم ينتبه أحد من دعاة "الثورة المستمرة"، إلى أن إهدار ثروات مصر، لا يتأتى فقط نتيجة النهب الذي يمارسه من نطلق عليهم لقب "الحيتان"، ولكن أيضاً نتيجة سلوكيات ما يربو على الثمانين مليوناً من الكائنات الصغيرة (السوس)، التي تنخر في الاقتصاد المصري، بعدم الكفاءة في أداء المهام الإنتاجية والخدمية، وإهدار ساعات العمل، كسلاً وبطالة مستترة، وتلكؤاً لهذا السبب أو ذاك. هذا تحديداً ما تمارسه الملايين، التي تهتف مطالبة بالعدالة في التوزيع، رغم أن "العدالة الحقيقية"، قد تقضي بعدم جدارتها بالحياة، عملاً بقاعدة "من لا ينتج لا يأكل".
أظن أن مجتمعاً هذه هي نوعية وحدود قدرات شبابه، ليس له أن يفكر في ثورة ولا في حرية ولا في حياة أفضل، فقبل أن يتبدل نظام التعليم المصري كلياً، لينتج جيلاً قادراً على الفرز والفهم والتحليل ثم الاختيار، ليكون بالتالي مؤهلاً للإبداع، يعد التطلع لحرية وتقدم وحداثة، ضرباً أضغاث الأحلام!!
[email protected]
&
- آخر تحديث :
التعليقات