أن يضرب الارهاب أوربا فتنتفض كما فعلت أمريكا سابقا، هذا تصرف طبيعي.
أن تتعامل فرنسا، كما كل الغرب، ببرود مع ما نتعرض له من إرهاب، أيضا تصرف طبيعي. هي ليست منظمات خيرية، انما بلدان تتحرك بمقتضى مصالحها.
ولنفترض أن القيم ليست مطلوبة في العلاقات الدولية، وأن المصلحة المطلوب.
لنتهم أنفسنا باعتبارنا العامل الوحيد لخلق الارهاب العالمي، وأن بقية العوامل غير مؤثرة.

لنفعل كل ذلك، رغم أن ذلك لا يجب أن يكون موقفاً معرفياً يحدد القيم ومساراتها. وأن المثقف الغربي كما الشرقي والمسلم... لا ينبغي أن يقيس الأمور على أساس ما تحدده مقتضيات المصالح السياسية. هناك مقتضيات أخرى لا ينظر لها السياسي، هي أيضا مصالح. لكن لنذر كل ذلك جانبا. نأخذ لباس السياسي، وعقله، ومصالحه، ونفكر، ونسأل:
هل أخطأ الغرب؟

إننا مخطئون. ثقافتنا وعقيدتنا سبب جوهري في صناعة الارهاب الديني بصيغته الداعشية والقاعدية، وكل الصياغات الاخرى التي تبرر استهداف العزل للوصول الى هدف. إلا أن الغرب أيضا ساعد على ذلك. تلاعب عليها، وتركها تنمو. وراعى مصالحه عبر قناة واحدة: رعاية الازمات، وإهمالها، لضمان ضعفنا، فيبقى قادرا على التحكم. لحماية خطوط نقل النفط، واسرائيل وأمور أخرى، كان لابد من تحجيم الشرق الاوسط، واستثمار صراعاته. ليس مرغوباً تطور أوضاعنا لنخرج من هذه الدوامة. بل يمكن القول ان إغلب التحولات التي تبدو في ظاهرها مناهضة للغرب، ومنها الثورة الدينية في ايران الاكثر عداء للامبريالية، انما جرت تحت رعاية الصمت الغربي، صمت لم يكسره علو الصوت والتنديد والاستنكار. لا أقول انه صنعها، انما ركن اليها وساعد عليها بشكل وآخر. مرفوض تماما قيام نظم حديثة وغير دكتاتورية مستقلة في هذه المنطقة. المطلوب فوضى أو دكتاتوريات شمولية، أو العودة الى ما قبل الحداثة...&
&
السياسة الخارجية الغربية في اغلب محطاتها، معنا أو مع سوانا، وقفت في زاوية واحدة وصنعت مساراتها عبرها، هي الانطلاق من الصراع الحضاري، الأفضلية، والمركز الذي يدور في فلكه العالم الهامشي. صناعة اسرائيل في احد اوجهها كسر للتطور البطيء الذي حققته المنطقة في العقود الاولى بعد قيام الدولة الحديثة في الشرق الاوسط. كل الايديولوجيات المدمرة سواء الشيوعية والقومية واخيرا الاسلام السياسي، انما تحشدت& على هامش مواجهة العدو في هذا الشرق. فخنقت الشعوب، وأخرجتها من دائرة الجهد الفعال الى العقم. انشغلت المنطقة بلعبة الطغاة والاحزاب الشمولية والافكار العدوانية. والنتيجة هزائم مستمرة تتجه بها الى الهاوية السحيقة.

الغرب هنا ليس الدنمارك والسويد، ولا سويسرا.. ولا نيوتن وديكارت ولوك وروسو وهيغل ونيتشه ودارون وفرويد وكِنت وانشتاين وارندت وفوكو وتودوروف، ولا شكسبير وانجلو وبتهوفن وموتزارت وديكنز وهوغو وهسّه... الغرب هنا لا صلة له بهؤلاء، انما هو في سياسته الخارجية انقلاب عليهم. بالتأكيد هو النموذج الاهون لو قايسناه بجنون الهتلرية والستالينية والماوية. الا أنه أيضا يبيح المحظورات لمصالحه العليا. بينما المحظور ليس دائما خياراً مناسبا حتى للمصالح. العالم ليس كبيرا بما يكفي ليحصن البناء الغربي ويكون في مأمن عن النيران التي تستعر في القلب الجغرافي للعالم، ولا الخرابات التي تضرب الشرق الاوسط.

التعامل مع الاخر كثانوي أو عدو يفترض ابقائه مشغولا بجروحه، ليس ضمانا للمصالح. الحرب العالمية الثانية لم تكن لتجري لولا هذه السياسة. تعامل المنتصرون في الحرب الاولى مع المانيا كمهزوم ذليل. تغذت النزعة العدوانية المتفاقمة اساسا داخل العنصر الجرماني، انتفض هتلر فارتكب بحق بلده والعالم كارثة كبيرة.

في المقابل، هناك الاسلام. الدين الذي ينطلق أيضا من ذات الزاوية. الاخر كافر يجب اخضاعه للغزو او الاستسلام العقائدي. بعيداً عن اي شعارات للبراءة والتنصل من ذلك، لنفكر بكيفية نظرة كل قراءات الاسلام للآخر، سنعرف انها كذلك. تؤمن بصراع مستمر معه، لأنه عدو. الكافر وفق النص الاسلامي الاصيل، كل من لا يؤمن بالخالق على الطريقة الاسلامية. اليهودي والمسيحي والمشرك واللا ديني والملحد، وتطول القائمة، كفرة. ثم تكفير الداخل الاسلامي لبعضه في عملية انشطار مستمرة. وهذه الفكرة تغلغلت في ثقافة كل المجتمعات الاسلامية. وكل الاتجاهات التي أثرت في واقعنا الحديث وجدت في هذه الفكرة بيئة وحاضنة لها، حتى لو تغيّرت المضامين من اسلامية الى شيء آخر. وكان يمكن أن تواجه بتطور حضاري غير مهزوم للبلدان الاسلامية المؤثرة. الا أن هذا لم يحصل، الارادة العليا لسادة العالم لم تكن تريد ذلك. فتم تقزيم البلدان التي تحمل الكفاءة للقيام بذلك، والنزول عند المصالح ليتمسك بتحالفه مع انظمة عرف عنها انها حواضن للعقيدة الارهابية أو داعمة مباشرة لها.

ان زاوية صراع الحضارات التي يقف فيها كل من الاسلام السياسي والغرب السياسي، لها ضحايا كثر، بدأت في التطلعات لبناء مستقبل أفضل في المنطقة، العراق وغيره. تلك التطلعات لو تحققت لما استطاع الاسلام السياسي وغيره من العقائد الجارفة، الوصول. هي جميعاً اعتاشت على هزيمة التطلعات. فيبقى العقل الاسلامي فقيراً، والعقل العربي عقيماً. وتتسع دائرة الضحايا اليوم لتشمل العالم كله. واذا تخلص الغرب اليوم من داعش، ستبقى اسبابها قائمة. البيئة المنتجة لا تزال منتجة وستبقى، ما دام مستقبل البلدان "المهزومة" مبهماً.

وخاطئ الاعتقاد الذي يساوي بين طريقة التعامل مع المعسكر الشرقي (الشيوعي) والاسلام الجهادي والسياسي بمرجعياته القائمة على المواجهة المستمرة لغاية نشر الدين. العقائد التي تستلهم شرعيتها من السماء اذا لم تُقيّد وتحجم من الداخل ومن قبل حملتها لا يمكن ان تُهزم بالسلاح حتى لو كان نووياً. وان مواجهة عقيدة تؤمن بصراع العقائد باندفاعة مصالح تعتمد صراع الحضارات، ليست مضمونة النتائج. ربما تهدد العالم كله بحرب عالمية، قد تبدو الان صعبة، لكنها ستأتي. وربما سيتنمى الغرب لو تنازل عن بعض مصالحه لصالح سياسات تسمح للاخرين بأن يكونوا انداداً عقّالاً له.
&