&

كان اعلان زعيم تنظيم الدولة الاسلامية أبو بكر البغدادي عن حل جبهة النصرة "الفرع السوري للقاعدة" وانصهارها في المسمى الجديد "الدولة الاسلامية في العراق والشام" سنة 2013 نقطة فاصلة في تاريخ الحركات الجهادية في العالم، فلم يكن اتفاق القيادات الكبرى في التنظيم على اعلان التمدد الفعلي الى سوريا مجرد بيان صوتي يلقيه البغدادي ويمرّ عليه مرور الكرام، بل كان تمهيدا لتنفيذ خطط توسعية مستقبلية خطتها أنامل دهاة سياسته والتي وصلنا منها بعض الوثائق التي نشرتها صحيفة دير شبيغل الألمانية في 18 أفريل 2015 من بينها خرائط شديدة الإحكام أعدها العقل المدبر لسياسة التنظيم "حجي بكر" بهدف السيطرة والوصول إلى السلطة،عن طريق خطط مخابراتية بحتة.

بعد تلك الرسومات، بدأ تنظيم الدولة تنفيذ خططه عندما أعلن أبو بكر البغدادي في التاسع من أفريل 2013 عن تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وظن كثيرون وقتها أن مسألة الإعلان عن قيام الدولة مسألة دعائية وهمية ولا تتعدى حدود العوالم الافتراضية،إلا أن الأمر تغير بعد أن استيقظ فجر الثلاثاء 10 جوان 2014 على وقع صدمة سقوط مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية سكانا على يد التنظيم، وبات يتحدث عن دولة حقيقية في حيز العوالم الواقعية، ولم يكد المجتمع الدولي يستفيق من آثار الصدمة وقتها حتى ظهر الناطق باسم الدولة أبو محمد العدناني في 29 جوان 2014 في أول أيام شهر رمضان معلنا قيام دولة "الخلافة".

أشهر معدودات من اعلان تنصيب "خليفة جديد للمسلمين" بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 حسب اعتقاد أنصار التنظيم بدأ على اثرها البغدادي يتلقى البيعات من كل حدب وصوب،مستعينا بالفيديوهات التي تنشرها المكاتب الاعلامية الخاصة بتنظيمه للتحريض على الانشقاق من القاعدة ومبايعة "الدولة الإسلامية" فتسابقت الجماعات الجهادية في مصر واليمن ونيجيريا والجزائر وبنغلادش وأفغانستان والمملكة العربية السعودية وداغستان... لإعلان بيعتها وانضمامها الى "دولة الخلافة".

وفي ظرف عام نجحت "داعش" في أن تكون قبلة الجهاديين من كل أنحاء العالم، فوفقا لتقرير أعدته لجنة مجلس الأمن في الأمم المتحدة وصل عدد المقاتلين الأجانب الذين توجهوا للقتال مع الجماعات الجهادية في سوريا والعراق ودول أخرى،إلى 25 ألف مقاتل، ينتمون إلى أكثر من 100 دولة و71 بالمائة منهم خرجوا من بلدانهم بين منتصف عام 2014، وآذار/ مارس 2015 والتحق غالبيتهم بتنظيم الدولة الاسلامية.

كما استطاع "تنظيم الدولة" بفضل الترسانة العسكرية الضخمة التي استولى عليها في كل من العراق وسوريا السيطرة على مدن جديدة في الدولتين رغم فقدانه لأخرى،وربما كانت خسارته لمدن تكريت وبيجي وتل أبيض في صالحه بسبب المجازر والانتهاكات التي ارتكبها مقاتلو الحشد الشعبي والمسلحون الأكراد في حق سكان المناطق التي حكموها مما يخلق مزيدا من التعاطف وحاضنة شعبية أكبر له في المناطق التي لازالت خاضعة لسلطانه.

لقد ساهم امتلاك "الدولة الإسلامية" لمقومات التمويل الذاتي بعد تمكنها من السيطرة على مدينة الموصل العراقية والرقة السورية في مواصلة القتال وتعويض خسائرها الفادحة من المقاتلين والبنية التحتية جراء الحملات الجوية والبرية عليها،فقد كشفت دراسة للمركز الفرنسي لتحليل الإرهاب ومقره باريس، أن ثروة تنظيم الدولة بلغت 2.2 مليار دولار،وقالت الدراسة التي نشرتها مجلة "شالنجز" الفرنسية إن تنظيم الدولة أضاف إلى ثروته 200 مليون دولار في ظرف وجيز لا يتجاوز العام،ووفقًا لتحليلات الخبراء فإن تنظيم الدولة بات على رأس قائمة أكثر المجموعات "الإرهابية" ثراءً على الرغم من غياب معلومات موثقة عن حجم ثروات وأرصدة هذه الجماعة لكن يمكن دعم نتيجة هذه الدراسات بما قاله السيناتور الأمريكي جون ماكين في شهر أوت من السنة الماضية خلال رده على سؤال حول موقفه من قتل الصحفي الأمريكي ستيفن سوتلوف في حديثه لشبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية بأنه"على الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يعي مدى وحشية تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي وصفه بأنه أقوى وأغنى تنظيم إرهابي على وجه الأرض، مضيفًا أنه"على أمريكا أن تتولى تشكيل وقيادة تحالف دولي لمواجهته."

وعت القيادة الأمريكية جيدا وقتها أنها عاجزة على السيطرة المطلقة على تنظيم الدولة الاسلامية والقضاء عليه لأن الماضي مختلف تماما عن الحاضر ولعل نظرة سريعة على ما يصرح به المسؤولون الأمريكيون دوريا دليلا واضحا على ذلك،ففي مقابلة مع صحيفة “فورين بوليسي” الأمريكية في شهر جوان الماضي، وقبل وقت قصير من تنحيه عن منصب نائب رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة للجيش الأمريكي،شبّه الأدميرال ساندي وينفيلد الحملة ضد تنظيم الدولة بالحرب الباردة،وقال وينفيلد وقتها "أعتقد أنه سيكون صراعًا بين الأجيال" كما قال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي المنتهية ولايته الجنرال راي أوديرنو للصحفيين في الوقت نفسه "في رأيي، سيمثل تنظيم داعش مشكلة على مدى السنوات العشر أو العشرين القادمة، إنها ليست مشكلة تمتد لعامين فحسب".

وبالاعتماد على كل هذه الإمكانيات التي تحدث عنها الخبراء والسياسيون في العالم، أصبحت "داعش" دولة وسط دولتين من خلال استقلالها التام عن كل ما له علاقة بالحكومتين العراقية والسورية،إلا أنه ورغم استقلالها يبدو واضحا أن الضربات الجوية المتواصلة من طائرات التحالف الدولي قد أضعفته وقتلت من مقاتليه الآلاف،فبين الفينة والأخرى تطالعنا منشوراته الاعلامية معلنة مقتل قياديين كبار في التنظيم قضوا جراء القصف الجوي وكان آخرهم الرجل الثاني بعد البغدادي أبو مسلم التركماني والذي نعاه العدناني شخصيا.

ولكن ورغم كل هذه الخسائر نجح التنظيم عسكريا في قتل قياديين أمنيين كبار في العراق وسوريا بعض منهم جنرالات في الحرس الثوري الإيراني بالإضافة الى آلاف المقاتلين المشاركين في الحملة البرية ضده كما دمر مئات العربات المدرّعة وعشرات الدبابات وغنم أسلحة متنوعة الى جانب سيطرته على مناطق استراتيجية في كل من حلب والأنبار وسامراء قاطعا بذلك خطوط امداد خصومه.

أما تكتيكيا فقد نجح التنظيم في استنزاف القوات الحكومية والميليشيات في كل من سوريا والعراق والخروج من شهر الصيف بأقل الخسائر،تاركا القوات العراقية والسورية على مشارف فصل شتاء مُتعب سيسمح بصموده،لأن الشتاء في تلك المناطق يُعدّ عائقاً وتحدياً خطيراً أمامها،بسبب طبيعة المناطق المتنازع عليها جغرافيا وطقسها الماطر البارد.

إلا أنه ورغم كل هذا الكر والفر طوال أكثر من سنة،ظهر تنظيم الدولة في الأسابيع الأخيرة في مواقع دفاع لا هجوم في المدن والقرى التي يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا بسبب كثافة القصف من الطائرات التي ملأت سماء العراق وسوريا بدءً من الطائرات بدون طيار وصولا الى اخر أنواع السوخوي والرافال والF الأمريكية بأنواعها، لكن في المقابل استطاع "التنظيم"أن يسيطر على بعض المناطق في ريف حلب الشمالي قاطعا بذلك خطوط امداد القوات السورية كما ظلّ صامدا في مدينة الرمادي والمناطق المحاذية لمدينة بيجي التي خسرها مؤخرا.

في الأخير يمكننا القول ان تنظيم الدولة الاسلامية نجح في تطبيق شعاره "باقية وتتمدد"الذي أصبح وردا يوميا لمناصريه يرتلونه وينتشون بترديده على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن هذا البقاء والتمدد رهين تدخل بري دولي بعد الفشل النسبي للتحالف الجوي الستيني.&

فهل يعجل التحالف الدولي بالتدخل بريا؟

&

تونس