هناك عدة نظريات فيزيائية معاصرة تتنافس للفوز بلقب نظرية كل شيء ولقد تكرست ثلاثة منها وهي: نظرية التناظر الفائق، ونظرية الأوتار الفائقة، ونظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية الدورية أو المتعاقبة. La super symétrie, Les super cordes, La gravité quantique à boucle. وعند التمعن في تفاصيل هذه النظريات الثلاثة ودراسة معادلاتها الرياضية سوف نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل من الممكن حقاً أن نكتشف مثل هذا الوصف الكامل للواقع الخارجي من خلالها بدون الحاجة للتراكم والمتاع المعرفي والمفهومي البشري في هذا المجال بما فيه من مفاهيم ومصطلحات ومسميات؟ وفي هذه الحالة، هل من المفترض أن يكون مثل هذا الوصف للواقع الخارجي وعلاقاته التبادلية، تجريدياً تماماً parfaitement abstraite بحيث تكون كل كلمة وكل رمز أو إشارة فيه لا تعدو كونها سوى علامة خالية من أي معنى مسبق أو مصمم مسبقاً préconçu، وإن الميزات و الخواص أو الخصائص المرتبطة بهذه الكينونات هي تلك التي تجسد العلاقات المتبادلة فيما بينها؟ للإجابة عن هذا السؤال يتعين علينا أن نعرف على وجه الدقة ما هي البنيات أو التركيبات الرياضياتية Les Structures Mathématiques والتي يمكن اختصارها بالقول أنها مجموعة كينونات مجردة أو تجريدية تتمتع بنوع من العلاقات فيما بينها، مثل الأعداد التامة أو الكاملة Nombres entiers والأشكال الهندسية Objets Géométriques كالهرم والمضلع والمكعب والمسدس، و السطوح الثنعشرية، والتي كانت تحظى بالتفضيل لدى الفيثاغوريين.

لقد تطورت الرياضيات المعاصرة للتعامل مع المسائل الأكثر عمومية. فالرياضيات المعاصرة هي دراسة شكلية رسمية للتراكيب والبنيات المجردة أو التجريدية أو التي يمكن أن تعرف على نحو تجريدي محض بدون تسميات أو مسميات بشرية كالقول أن 4X2 =2، والحقيقة أننا لا نبتكر التراكيب أو البنى الرياضياتية بل نكتشفها، ومن ثم نختلق التصنيف لوصفها كما هو الحال في الأشكال الهندسية المعروفة كالمخروط والهرم والمضلع والرباعي الوجوه، والمكعب والمسدس، والمجسم الثماني، و السطوح الثنعشرية، و الشكل العشروني الوجوه الخ، والتي تعرف بالفيزياء باسم الأشكال الخمسة الصلبة لأفلاطون Les Cinq Solides de Platon، وهي يمكن أن تكون أشكال للأكوان المختلفة.

فالقول بنظرية الكون الرياضي تفرض علينا تساؤلات عديدة من قبيل: 1 ما هي التركيبة أو البنية الرياضياتية بالضبط؟ 2 كيف يمكن لعالمنا الفيزيائي أن يكون بنية أو تركيبة رياضياتية على وجه الدقة؟ 3 وهل سيتيح لنا ذلك أن نقوم بتكهنات وتوقعات وتنبؤات قابلة للاختبار وخاضعة للتجربة؟. وللإجابة على كل سؤال من هذه الأسئلة نحتاج إلى كتاب كامل لشرحه والإجابة عليه وهو متعذر في الوقت الحاضر لضيق الوقت والمساحة المحددة لهذه المقالة. ولكن نقول باختصار شديد، لو كانت فرضية الكون الرياضي صحيحة فإن ذلك سينطوي بالضرورة على القبول بمسلمة أن كوننا ما هو إلا بنية أو تركيبة رياضياتية بحتة، وانطلاقاً من وصفها رياضياً على يد عالم رياضيات فذ وعبقري، نستطيع أن نحيد جميع نظرياتنا الفيزيائية بعد أن نقوم بحساب التناظرات لهذه البنية أو التركيبة الرياضياتية كأول خطورة ضرورية. من هنا تجرأ بعض العلماء على القول أن واقعنا الفيزيائي الخارجي ليس مادياً سوى في ظاهره وما هو إلا تركيبة أو بنية رياضياتية مجردة ليس إلا. وهذا سيقودنا حتماً إلى نمط أو نوع جديد من تعدد الأكوان Multivers كما تصوره العالم ماكس تغمارك في كتابه الرائع الكون الرياضي، وهو أوسع وأشمل من أي نوع من أنواع العوالم والأكوان المتعددة. ولكن هناك مفارقة علينا توضيحها وهي أن عالمنا الفيزيائي الذي نعرفه، يوجد في حالة تطور دائم في حين أن التركيبات والبنيات الرياضياتية ثابتة، فهي موجودة فحسب، فكيف لهذه الأخيرة وبهذه الخاصية أن تمثل عالمنا أو تجسده وتجسمه؟ بعبارة أدق، كيف يمكن لواقع فيزيائي أن يكون تركيبة أو بنية رياضياتية؟ لنعد لمفهوم الواقع الزماني ولمفاهيم النسبية العامة التي قدمها لنا آينتشين ونستعين بها فهذا العالم الفذ علمنا أن هناك طريقيتين لإدراك الواقع الفيزيائي: إما كمنطقة ثلاثية الأبعاد نسميها المكان espace، والتي تتطور فيها الأشياء في سياق الزمن وداخله، أو كمنطقة رباعية الأبعاد سماها الزمكان حيث الزمان ليس مستقلاً عن المكان بل جزء أساسي من هذه الصيغة أو النسيج المسمى الزمكان غير المخلوق وغير القابل للفناء. فالمكان هنا ليس موضع توجد بداخله الأشياء والمحتويات الكونية، والزمان ليس عنصراً مستقلاً يجري دون أن يؤثر عليه شيء، بل وحتى الزمكان لا يتواجد داخل المكان والزمان بل العكس أي الإثنان يتواجدان فيه وبالتالي يمكننا القول أن الواقع الفيزيائي الخارجي المذكور أعلاه هو تركيبة أو بنية رياضياتية وهي كينونة تجريدية ثابتة بطبيعتها وجوهرها، خارج المكان والزمان التقليديين النيوتنيين وقوانين نيوتن عن الحركة والجاذبية، أي كالفيلم داخل قرص الـ د ف د DVD فالزمكان يضم ويحتوي كل الأوضاع والأوقات فلا توجد لحظة مشتركة للجميع ولا مكان مشترك للجميع، ولهذا قال آينشتين بهذا الصدد:" أن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم مهما كان عناده" وشدد آينشتين على حقيقة أن أي من هذه المفاهيم لا يمتلك معنى موضوعي في الزمكان. فالمفاهيم المكانية والزمانية التقليدية، من قبيل هنا وهناك، وقبل وبعد، وفوق وتحت، والآن، وغيرها، تفقد معانيها في الزمكان الاينشتيني ويتداخل المكان والزمان والحاضر والمستقبل والماضي ويتحول أحدهما للآخر، كما جاء في كتاب العالم الفيزيائي بريان غرين في كتابه الرائع " الواقع الخفي La réalité cachée.

من هنا يمكننا القول أن الزمن ليس وهماً بل جريانه الذي نشعر به بحواسنا هو الوهم. ونفس الشيء بالنسبة للتغيير، ففي الزمكان، يكون المستقبل موجود لكن الماضي لايختفي وينتهي أبداً. وعندما نجمع بين الزمكان الآينشتيني التقليدي مع الميكانيك الكمومي أو الكوانتي نحصل على تعدد الأكوان والأكوان المتوازية ما يعني أنه يوجد أنواع متعددة للماضي وكذلك للمستقبل وكلها حقيقية وواقعية كما جاء في الفيلم الرائع " إسمي لا أحد my Name Is nobady. وأخيرا أتاح لنا تقدم العلم والتكنولوجيا أن ندرك معنى تحول الأشياء المادية إلى بنيات وتركيبات رياضياتية، فالنصوص والرسوم والصور والأفلام يمكن أن تمثل أو تجسد رياضيايتاً ورقمياً بواسطة الكومبيوترات ويجري نقلها وتحويلها عبر المسافات البعيدة وبسرعة هائلة بواسطة الانترنت على شكل إيقونات ورموز رياضياتية معلوماتية ورقمية فعندما أطبع مفردة " كلمة"يخزنها الكومبيوتر على الشكل التالي " 109111116". ويترجم كل حرف فيها إلى رقم رياضي مثل a=97,m=109 وهكذا. وهذا ما قادنا في السنوات الأخيرة إلى تقنية المحاكاة المجسمة الثلاثية الأبعاد وطباعتها بطابعات ثلاثية الأبعد أي تحويلها من رموز رياضياتية رقمية إلى واقع مادي والعكس ممكن أيضاً.

يتبع

&