الكون باعتباره تركيبة أو بنية وكينونة رياضياتية:L’Univers, comme une structure mathématique حسب نظرية ماكس تغمارك - 1 -
ماتزال معلوماتنا ومعرفنا محكومة بحسابات نظرية الاحتمالات بالرغم من تقدم وسائل الرصد والمراقبة والمشاهدة وتطور التكنولوجيا المرتبطة بها، لكنها لم تصل بعد إلى حلول وتفسيرات ناجعة ومقنعة فيما يخص قانون العلة الأولى، وأبدية القوانين الكونية الجوهرية، وحقيقة المنظور الاحتمالي للعالم. وعند التمعن في الطبيعة وفي ماهيتها الحقيقية والتأمل في سرها وجوهرها يطرأ على أذهاننا التساؤل التالي، وهو ليس بالبريء، ماهي الآلية العلمية والنظرية الملائمة لوصف الطبيعة؟ لايوجد لدينا وسيلة أخرى غير الرياضيات وهل يمكن أن نوصف الطبيعة بغير الرياضيات التي هي لغتها الحقيقية؟ بل يمكننا القول أكثر وأبعد من ذلك، فماذا لو كانت الطبيعة هي ذاتها ليست سوى ماهية رياضياتية؟ أو بنية رياضياتية une structure mathématique؟ والمقصود هنا ليس بضعة جوانب من الطبيعة بل جوهرها ذاته بما فيه مكوناتها التأسيسية ونحن جزء منها بالطبع. هذه فرضية علمية لم تثبت بعد مختبرياً بل فقط رياضياتياً لكنها تستند على دعامتين: الأولى، فرضية تقول بوجود واقع خارجي مادي ملموس يرمز له بــ HRE وهي الحروف الأولى من Hypothèse de la réalité externe. بعبارة أخرى يوجد واقع خارجي مستقل تماماً عن الكائنات البشرية وهو موجود قبل ظهور الكائن البشري بمليارات السنين. والثانية، هي فرضية الكون الرياضي أو على نحو أدق الرياضياتي والذي يرمز له بــ HUM وهي الحروف الأولى من Hypothèse de l’univers mathèmatique، بتعبير آخر هو إن واقعنا الفيزيائي الخارجي ما هو إلا مجرد بنية رياضياتية غير مرتبطة بالكائن البشري. كما ذكر ذلك العالم السويدي المقيم في الولايات المتحدة والمدرس في معهد MIT معهد ماسوشوسيتس للتكنولوجيا الشهير وهو ماكس تغمارك MAX TEGMARK في كتابه الرائع " كوننا الرياضياتي:notre univers mathèmatique. وعند العثور على تعريف منطقي ووافي ومقنع لصيغة البنية الرياضياتية فإن الدعامة الأولى ستتضمن وتنطوي على وجود الدعامة الثانية الحتمي، والحال أن أغلب العلماء يتفقون بنحو أو آخر على وجود واقع خارجي مستقل عنا نحن البشر لكنهم يترددون بقبول الفرضية أو الدعامة الثانية. بل حتى الدعامة الأولى تغدو أحياناً محل جدل بين أنصار التفسير الميتافيزيقي للواقع والذي لايعترفون بوجود واقع منعزل عن البشر، يضاف إليهم بعض من جماعة تفسير كوبنهاغن من مشاهير نظرية الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لأنهم يعتقدون بعدم وجود واقع خارج فعل الرصد والمشاهدة. فالواقع الذي نعرفه غير موجود من وجهة نظرهم إلا إذا وقع عليه فعل رصد ومراقبة ومشاهدة وتفاعل معه.
لو افترضنا وجود واقع خارجي فإن النظريات الفيزيائية ستتكفل بمهمة وصفه وشرح طريقة سيره وعمله، بيد أن أفضل نظرياتنا الراسخة والتي ثبتت صحتها وصلاحيتها تطبيقياً ومختبرياً، وهي النسبية العامة لآينشتين والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، لا تصف إلا على نحو جزئي غير كامل هذا الواقع المستقل عنا. فالنظريتان تصفان على نحو منفصل، الجاذبية أو الثقالة كالنسبية، وسلوك الجسيمات الأولية وما دون الذرية كالنظرية الكمومية أو الكوانتية. والحال يحتاج الأمر لوجود الكأس المقدسة Le Graal في الفيزياء النظرية المعاصرة، أي صياغة نظرية موحدة وجامعة وشاملة بمعادلة واحدة تقدم لنا وصفاً وتفسيراً شاملاً وكاملاً وناجعاً ووافياً للواقع.
المفارقة المطروحة هي لو أننا افترضنا وجود واقع خارجي مستقل عن الكائن البشري، فلا بد من إيجاد وصف كامل وتام لهذا الواقع، وذلك لابد أن يتم بواسطة كائنات ليست بشرية أو مخلوقات فضائية ذكية وعاقلة ومتطورة، أو آلات وكومبيوترات متطورة ومتقدمة جداً،ذكية وعاقلة ومفكرة وتتجاوز قدرات البشر بكثير، يمكنها أن تتجاهل كلياً المفاهيم البشرية. أي إن مثل هذا الوصف ينبغي أن يكون خالياً من المفاهيم البشرية المألوفة وذو مظهر مفرغ تماماً من الأمتعة البشرية المتراكمة عبر العصور من المفاهيم والأسماء كالجسيمات والمشاهدة وغير ذلك من المفردات البشرية.
العقبة التي تواجهنا هي أن جل النظريات الفيزيائية المتوفرة لدينا تتضمن معادلات رياضية وضعها البشر مع المتاع المتراكم لديهم من المفردات والمصطلحات والمفاهيم اللغوية البشرية لكي تفسر لنا كيفية تشخيص المعادلات الرياضية لما نرصده ونراقبه ونشاهده بأدواتنا البشرية ونتعاط معه حسياً وحدسياً. فعندما نضع نظرية ما ندخل إليها، إلى جانب ما يتواجد من حصيلة سابقة، مفاهيم جديدة وكلمات ومفردات لغوية تعبر معانيها عن هذه النظرية مثل فوتونات، بروتونات، الكترونات، ذرات،جزيئات،خلايا، نجوم، ومجرات الخ..دون أن ننسى أمراً مهماً وهو أن الكائنات البشرية هي التي اختلقت وأوجدت هذه المفاهيم ومعانيها وشروحاتها. كما يمكن أن يتم ذلك من خلال الحسابات المجردة دون اللجوء إلى تلك المفاهيم والمفردات، بل نستخدم فقط الأرقام والأعداد والإشارات والرموز الرياضياتية لكنها أيضاً من صنع البشر. وبإمكان كمبيوتر عملاق ونموذجي أو مثالي يفوق البشر بكثير أن يقوم بحساب التطورعبر الزمن الذي شهده كوننا المرئي دون الحاجة لترجمة نتائجه بعبارات بشرية، وذلك من خلال حساب وتقويم كل الجسيمات الأولية المكونة أو التأسيسية للكون المرئي دون أن نسميها بهذه التسمية، أو حساب التنويعات والمتغيرات التي تحدث لدالة الموجة La fonction d’onde.
ولتوضيح الفكرة أكثر، لنأخذ جرم سماوي، على سبيل المثال أحد النجوم في الفضاء، سوف ندرك أن كلمة نجم هي مفردة بشرية باللغة العربية، ولها تنويعات لغوية في كل لغات العالم عند البشر الذين يسكنون الكرة الأرضية. ولكن يمكن أن نشير إليها بطريقة أخرى ونقول عنها مثلاً أنها كينونة أو مجموعة من المكونات تحتوي على ما يزيد عن 1075 من الذرات المرتبطة ببعضها ثقالياً ومحكومة بأربعة قوانين جوهرية، وإن جزء من هذه الذرات يقوم بتفاعلات الاندماج النووي وهذه العبارة تنطبق على الشمس التي هي إحدى النجوم. والحال أن الطبيعة تحتوي على عدد هائل من الكينونات التي تبحث عن تسميات من قبل البشر الذين يتحدثون لغات مختلفة لمعنى واحد مشترك بينها جميعاً. وهذا ينطبق أيضاً على حضارات فضائية أو كونية غير بشرية تعيش في أنظمة شمسية أخرى خارج نظامنا الشمسي وربما في مجرات أخرى خارج مجرتنا درب التبانة حيث يمكنها أن تبتكر مسميات خاصة بها ليست بالضرورة لغوية أو صوتية بل قد تكون مجرد إشارات ورموز لما نسميه نحن النجوم والمجرات في حال كانت تتواصل فيما بينها بالتخاطر وليس بلغات صوتية. ما أريد قوله هو أن بالإمكان دائماً التكهن رياضياتياً بوجود تلك الكينونات دون أن نسميها وذلك بالاعتماد على معادلات رياضية تتحكم بأجزائها من أصغر شيء في اللامتناهي في الصغر إلى أكبر شيء في اللامتناهي في الكبر وما على البشر فيما بعد سوى اختلاق تسميات تضفى عليها في كافة المستويات. ولنأخذ مثالاً بديهياً عن ذلك. فلو تمكنا من حل معادلة شرودينغر لخمسة كواركات أو أقل لنقل ثلاثة، فلن نتوصل سوى إلى طريقتين لضبطهما وجعلهما مستقرين. فإمكان أن يكونا كواركين علويين UP وواحد سفلي down أو العكس إثنين سفليين وواحد علوي ويمكننا تسميتهما بالبروتونات والنيوترونات. وهناك في الطبيعة، وفق معادلة شوردينغر، ما يربو على 257 طريقة للضبط والتنظيم لتلك المكونات والعناصر التي تفرزها الطبيعة والتي منحها البشر تسميات مثل الهيدروجين والهليوم والنتروجين الخ.. وذلك وفق نواها الذرية ses noyaux atomiques، كما تعلمنا معادلة شوردينغر كيف نحسب كافة الطرق لتنظيم وتجميع الذرات للخروج بأشياء أكبر نطلق عليها أسماء مثل كرستال، ماء، غرافيت، جواهر، الخ.. المشكلة أننا تعرفنا على النجوم قبل أن نعرف أنها مكونة من ذرات تتفاعل، واكتشفنا الذرات قبل أن نعرف أنها مكونة من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، وعرفنا النيوترونات قبل أن نكتشف أنها مكونة من كواركات. فكل النظريات العلمية التي في حوزتنا لديها معادلاتها الرياضياتية ومصطلحاتها التي تفسر لنا كيف تتطابق هذه الأشياء مع ما نرصده ونشاهده ونراه. فالميكانيك الكمومي أو الكوانتي يمتلك معادلة شوردينغر ومعها مسلمات جوهرية عرفت كمصطلحات ومفاهيم مثل اختزال حزمة الموجة réduction du paquet d’onde التي سنتطرق إليها لاحقاً في دراسة قادمة.
بقي أمامنا أن نكتشف الكأس المقدسة للفيزياء النظرية Le Graal التي يطلق العلماء عليها تسمية نظرية كل شيء ToE وهي الحروف الأولى للتسمية االإنجليزية theory of Everything وبالفرنسية Théorie du Tout والتي من شأنها الجمع والتوحيد بين الجاذبية أو الثقالة مع الميكانيك الكمومي أو الكوانتي في نظرية واحدة بمعادلة واحدة بمقدروها أن تقدم لنا وصفاً كاملاً وشاملاً للطبيعة والواقع الفيزيائي الخارجي على أن يكون متحرراً وخالياً من المتاع البشري الجاهز أي بدون مفاهيم بشرية وما هي سوى مسألة وقت ليس إلا.
يتبع
التعليقات