&كأن هذا التساؤل قدر مصر الأزلي. ظللنا نردده منذ وعينا على الحياة، وربما ردده أباؤنا وأجدادنا الحداثى والقدامى أيضاً، فالتاريخ يذكر لنا أن مصرلم تعرف الاستقرار والتنمية والسلام على مدار مئات السنين إلا في ما ندر. في العصر المعاصر، لم يفارق التساؤل المصريين حين دخل جمال عبد الناصر حروباً لم يكن وراءها طائل. وحين كان أنور السادات ينزع عن مصر براءتها بتسليمها للإسلاميين تساءلنا بحزن إلى أين أنت ماضية يا مصر؟ وعندما اغتيل السادات وأصبح الإسلاميون على بعد خطوات من الاستيلاء على الحكم كررنا التساؤل ممزوجاً هذه المرة بالقلق. وحين بقي حسني مبارك على مقعد الرئاسة حتى شاخ وضعفت سيطرته على زمام الأمور وتحولت مصر إلى حكر لمجموعة بعينها تستفيد ولا تفيد، أعدنا من جديد بمرارة وألم طرح التساؤل. عندما نشبت أحداث يناير التي آلت إلى تسليم مصر لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية عاد التساؤل مريراً وبإلحاح شديد.

اليوم وبعد وصول حاكم وطني مخلص إلى السلطة لا يزال التساؤل يفرض نفسه بقوة. لا تبدو الأمور اليوم أكثر سهولة عما كانت عليه في أي وقت مضى، بل العكس يبدو صحيحاً تماماً. التحديات التي تواجهها مصر اليوم جادة وعسيرة وخطيرة، الأمر الذي جعل التشاؤم يبدو أقرب إلى النفس من التفاؤل. التحديات تبدو متجذرة ومتشعبة في جسد المجتمع، ما عمّق من جرعة الآلام حتى أصبحت المداواة بالمسكنات والمهدئات الوقتية أمراً غير مجدي. التحديات تبدو غير مسبوقة في كيفيتها وكميتها، وهو ما جعل الطريق يبدو موحشاً وأكثر إظلاماً عما كان عليه قبل سنوات قليلة لا تخطؤها الذاكرة، حتى أن الشموع القليلة المتبقية باتت غير كافية لإنارته.

ما أكثر التحديات التي تواجه مصر اليوم. هناك التحدي الاقتصادي الذي يحني ظهر مصر ويجعلها عاجزة عن الحركة والنهوض والتفاعل مع القوى والمتغيرات الداخلية والخارجية. هناك التحدي السكاني الذي يغتال كل حلم في غد أفضل لأن الموارد تعجز عن الوفاء بالمطالب. هناك التحدي الاجتماعي الذي يتمثل في التفاوت الطبقي الذي يهمش الفقراء ويضع النسبة العظمى من مقدرات وإمكانيات مصر في أيادي عدد قليل جداً من الأغنياء والمقتدرين. هناك التحدي الثقافي والتعليمي الذي نشأ نتيجة تفشي ظاهرة التجهل التي تم تكريسها بالتركيز على التعليم الديني وعدم تنوع المصادر الثقافية. وهناك التحدي الديني الذي تتسبب به المجموعات المتطرفة التي تسعى لتطبيق نماذج غريبة من الإسلام في مصر. وهناك تحدي رفض الأخر والمختلف. وهناك أيضاً التحدي الخارجي الذي تشكله دول بعينها، مثل قطر وتركيا، عبر تطبيق أجندات مريبة تهدف إلى إضعاف مصر.

رغم أن كل هذه التحديات الجسام تعد خطيرة وتكفي لكسر عزيمة أي دولة، إلا أن التحدي الأسوأ على الإطلاق والأكثر خطورة على مصر ومستقبلها هو تخلي فصائل من شعبها عن ضمائرهم وعن وطنيتهم وعن إنسانيتهم. التحدي الذي تشكله الجماعات الإرهابية اليوم يقسّم مصر فعلياً إلى جزئين، جزء وطني وجزء خائن، جزء يدين بالولاء لوطنه وجزء يدين بالولاء لجماعته وأفكارها الهدّامة، جزء يريد لمصر التقدم والنهضة وجزء يرغب في إعادة مصر إلى عصور عتيقة ولى عليها الزمن. ما يزيد من خطورة الأمر هو رفع الجماعات الإرهابية راية الإسلام في عملياتها، وهو الأمر الذي يساعدها في استقطاب الجهلة والمتجهلين والمتطرفين، وما أكثرهم في المجتمع المصري. القضية هنا لا ترتبط فحسب بعشرات أو مئات أو حتى ألوف المسلحين، لكنها ترتبط أيضاً بالملايين من المتعاطفين مع تلك الجماعات من الذين يختبئون في كل ركن من أركان مصر ولا يُظْهِرون ولاءهم ولا يكشفون عن نواياهم.

مصر تعاني بشدة هذه الأيام من قسوة بعض أبنائها عليها. لا يبدو أن أحداً يهتم بمعاناة مصر إلا المخلصين من أبنائها الذين يتألمون لألمها ويتضررون لضررها وينسكبون أمام جراحها الدامية. التحديات التي تواجه مصر عصيبة ولا يملك أحد عصاً سحرية لحلها. فلا الحل الأمني بقادر على استئصال الانقساميين ولا الحوار مع قوى إرهابية خارجة على القانون بمطلوب. إن كان العمل قادر على إيجاد حلول للتحديات الاقتصادية، وإن كانت الجهود قادرة على فك رموز التعقيدات الاجتماعية، إلا أن تحدي الانقسام السائد هذه الأيام بين المصريين ولجوء فصيل للإرهاب لا يمكن حله بعمل أو بجهود لأنه من يقومون به ويدعمونه عناصر تدّعي تفردها في معرفتها بالدين وفي امتلاكها للحقيقة المطلقة. اللعب بورقة الدين والتدين يتسبب في تعقيد كل فرص الحلول السلمية لرأب الصدع، خاصة مع غياب مريب لصوت إسلامي معتدل يدحض حجج الإرهابيين. كل هذا يدفعنا من جديد للتساؤل إلى أين أنت ماضية يا مصر؟

&

[email protected]

&