علمني والدي حب الكتاب.
عندما أفكر في حبي للكتب ومحاولاتي المتكررة لزرع هذا الحب في أولادي أتذكر والدي الذي لا يفارقه الكتاب. عندما كنا في السعودية ونزور مدينة كبيرة وخاصة الرياض كان والدي يقوم بجولة على مكتباتها ليقتنص كتابا هنا وكتابا هناك. وكنا نحب أن نرافقه في هذه الجولات ونذهب معه إلى المكتبات التي لم تكن ترى الكثير من النساء في الأحوال الطبيعية. مرة زرنا مكتبة في زاوية بناء صغيرة وكأنها خرجت من رواية عجيبة بممراتها الضيقة بين رفوف الكتب التي تجمعت عليها صفوف من الكتب التي تراكم عليها الغبار. وعندما تزاحمت الكتب وتدافعت لم تجد لنفسها مفرا سوى أن تتكوم على أرض المكتبة هنا وهناك. وبين الأكوام التي على الأرض وجدت مجموعة من قصص أجاثا كريستي مكدسة فوق بعضها البعض. سألت والدي إن كنت أستطيع أن آخذ بعضا منها فقال خذي كم تريدين ثم غادرنا المكتبة وأنا أحمل الكومة التي كانت على الأرض كلها. كانت من نوع الطبعات الرخيصة التي يجب أن تمسك بسكين وأنت تقرأها لتفريق الصفحات. ولكنها كانت بالنسبة لي كنزا ثمينا.
علمني والدي أن القراءة مثل الأوكسجين نحتاجها في كل وقت وفي كل سياق.
تعلمت منه أننا نستطيع ان نقرأ في أي وقت وأي مكان. دقائق انتظار مملة في دائرة حكومية يمكن أن تمتلئ بالفلسفة والتاريخ أو أحداث رواية مشوقة. الوقت ثمين بالنسبة لوالدي وإذا شعر أن الحديث أو الصحبة التي حوله غدت غير نافعة أخرج كتابه بحثا عن صحبة جديدة. مرة فتح الجالسون حديثا عن آخر مجريات الرياضة فوجد كتاب والدي فرصة لمقاطعة الحديث ليستأثر باهتمامه. شعر أحد الحاضرين بالإهانة وهم بأن يترك الجلسة لولا أن تدخل أولاد الحلال. ذكرتني هذه القصة بكتاب للكاتب الأمريكي الشهير ستيفن كينغ اسمه "عن الكتابة" يقول فيه إن الذين يحبون الكتابة تلازمهم الكتب بطبيعة الحال ومن يريد هذه الحياة فعليه أن ينسى الأتكيت وفزلكات الواجبات الاجتماعية. والدي رجل لطيف ومعشره جميل ولكنه لا يحب تضييع الوقت. يدهشني كيف يعمل باستمرار على بناء عقله وإمكاناته المعرفية. في أحد زياراته إلى كندا وبعد أن أرتاح من سفره سألناه ماذا يحب أن يفعل في هذه الإجازة. فأجابنا بأنه يشعر أنه يوجد عنده ثغرة في التاريخ الروماني وبأنه سيحب أن يسد بعضا منها في هذه الإجازة! كثيرا ما نتذكر جوابه أنا وأخواتي حتى أصبحت "الثغرة في التاريخ الروماني" من الجمل المتداولة في عائلتنا.
علمني والدي أن هناك وقتا لكل شيء.
في حياتنا المعاصرة نشعر أننا نهرع من عمل إلى آخر وأن حياتنا أصبحت سلسلة من الأعمال والواجبات التي تلاحقنا. عندها أُذّكر نفسي بوالدي الذي لم أشعر في حياتي أنه متأخر على أي شيء مع أنه كان عليه الكثير من المسؤوليات والأشغال. فكل يوم عنده وقت للتمشي أو كما يحب أن يسميها تفسيحة الفلاسفة الرواقيين، ووقت لمشاهدة الأفلام الفنية والوثائقية وقليلا من الوقت لقيلولة يشرب بعدها القهوة. وقد علم نفسه بعض الأساسيات من لغات مختلفة وهو يقود سيارته. وعندما سُئل مرة كيف استطاع أن يكون جراحا ناجحا وكاتبا غزير الإنتاج ورب أسرة متفاني أجاب: إن المشكلة ليست في كثرة الأعمال أو في توفر الوقت فكلنا يأتينا نفس عدد الساعات كل يوم ولكن السر يكمن في ترتيب الأولويات وتنظيم الوقت.
علمني والدي أن الحضور لا يكون بالصوت العالي.
لا أذكر أنني سمعت والدي يصرخ أو يرفع صوته علي أو على إحدى أخواتي أو على أي أحد آخر. ولكن في نفس الوقت له حضوره واحترامه وعندما يتحدث من غير أن يرفع صوته يستمع له الجميع. أحاول أن أكون مثله ولكنني افشل أحيانا وأغضب وأرفع صوتي سواء مع أولادي أو عندما أتحدث في قضية عندي نحوها الكثير من المشاعر--الثورة السورية مثلا. ولكن والدي دليل حي على أن الفكرة لن تصل بشكل أفضل مع رفع الصوت بما في ذلك علاقتنا بأولادنا.
علمني والدي ألا أؤجل عمل اليوم إلى الغد.
قابلت قلائل من الناس في حياتي ممن لا يعرفون معنى التأجيل ووالدي واحد منهم. بصراحة بالغة، مع أنني أعرف أهمية هذا الدرس، إلا أنني ما زلت بعيدة عن أن اتقنه بعد ومشكلة التأجيل موضوع مهم أحب أن أتناوله ولكنني سأؤجله ليوم آخر.
علمني والدي أن العقل المنفتح النقدي لا يتعارض مع قلب يمتلئ بحب الله.
نرى الكثير من التوجهات التي تضع نفسها بين مفرق العقل أو الإيمان. الرسالة التي تصلنا هي أننا إذا أردنا أن نكون مسلمين جيدين نستحق دخول الجنة فعلينا أن نغلق عقلنا ونغلفه بورق هدايا مع شريطة جميلة ونسلمه للفقيه ليفكر "هو"--طبعا لا يوجد "هي" في هذه الفئة بالذات--بالنيابة عنا. وإذا ما أبى العقل إلا أن يطلق العنان لقدراته فلن نستطيع أن نتحمل الكثير من الهراء الذي يقدم لنا على أساس أنه ما يريده الله منا، ومثال على ذلك أن صوتي عورة. رأيت والدي طوال حياتي وهو يقرأ آخر ما وصلت إليه العلوم في حقول متعددة في البيولوجيا والكزمولوجيا والأنثروبولوجيا، ومن غير أن يكون هناك أي تعارض مع قلبه المتعلق بالله. والدي وأمثاله استطاعوا أن يتخطوا سيطرة المشايخ ووعاظ السلاطين وأن يهربوا من جنتهم وجحيمهم وصكوك غفرانهم. ولكن وفي عملية هروبهم لم يسقط منهم القرآن بل بقوا متشبثين به ولم يتركوه خلفهم لمن يريدون تحويله إلى جهاز تدمير للعلم والجمال والحضارة والمرأة. وبفضل والدي ومن يشاركه أفكاره وصلتنا الجواهر الثمينة والمعاني العميقة في محاور القرآن عن العدالة والإحسان وعلاقة الإنسان بخالقه وبالكون الذي يحيطه به.&&&
علمني والدي أن كوني أنثى لا يعني أن أكون أقل من غيري بشيء.
لم يكن والدي يلقي المحاضرات والتعليمات عن هذا الموضوع. ولكنه زرع فينا هذا الإحساس بشكل عملي لأنه كان يتعامل مع أمي ومعي وأخواتي على أساس أننا كاملات عقل وقادرات على أن نفهم مثل أي شخص عنده دماغ شغال. أكتب هذا واشعر بالامتنان العميق له على أنه وفي مجتمع يغرق بالخوف من صوت المرأة ورأيها أصر على كل واحدة منا أن تكون صاحبة رأي. كنا في جلساتنا العائلية نناقش أمورنا أو أخبار أخرى خارجية فيسأل كل واحدة عن رأيها. وحتى أختي الصغرى لما كان يأتي دورها وتبدأ بالنظر حولها تتذكر أنه كان يقول له لا تتأثري بآراء أخواتك الأكبر وقولي ما يجول في بالك أنت!
يقولون إن الذكريات الأولى في حياة الإنسان لها مدلول مهم في حياته. ومن أولى ذكرياتي أنني في سنوات طفولتي المبكرة وبينما كنت مع العائلة تعبت من المشي في مدينة أوربية لا أذكرها فرفعني والدي وأجلسني على كتفيه. ما زلت أستطيع إلى الآن أن أتذكر شعوري كيف أمسكت بيدي الصغيرتين برأس خالص جلبي حتى اثبت نفسي على كتفيه. لقد رفعني والدي على رأسه بأكثر من معنى وجعلني أرى آفاقا أكبر من كل الذي كان يحيط بنا.
نعم، كل فتاة بأبيها معجبة، وأنا لست استثناءا لهذه القاعدة.&
&