أصدر بارتولوميو سبارو، آلأستاذ في جامعة تكساس الأميركية، أخيراً كتاباً بعنوان «الاستراتيجي»، (أي الرجل أو المخطِّط الاستراتيجي)، يتناول موضوعه الجنرال برينت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي السابق للرئيسين جورج بوش الأب، ومن قبله جيرالد فورد. فقد كان سكوكروفت، شأن نظيره الآخر زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، من المفكرين الاستراتيجيين الكبار الذين لا يترددون في النطق بالحق تجاه رؤسائهم وتجاه السلطة الحاكمة.
بهذا اكتسب الجنرال سكوكروفت احترام الحزبين المتنافسين على السلطة في الولايات المتحدة، لا لقدرته على التفكير الاستراتيجي فحسب، بل الأهم من ذلك لقدرته على تحويل أفكاره الى سياسات ممكنة التطبيق، وتنفيذ تلك السياسات عملياً.
فإذا أخذنا التعريف الدارج لمفهوم الاستراتيجية على أنه لقاء الرؤيا والفعل، فإن الاستراتيجية الجيدة في مضمار السياسة الخارجية تتطلب تفكيراً صافياً وواضحاً حول الأهداف والمرامي الطويلة الأجل.& أي حول ما يسعى بلد من البلدان الى تحقيقه في العالم في نهاية المطاف. لكن ذلك يتطلب أيضاً تحويل تلك الرؤيا الى مبادرات يومية من شأنها تحريك سفينة الدولة بصورة دؤوبة للاقتراب من مبتغاها، أو الوصول بها الى بر الأمان. ولذلك فإن التفكير الاستراتيجي يتعلق بالتنفيذ ولا يقتصر على التصوُّر فقط. فهو أمر مجبول بالفعل العملي الى جانب الأماني والطموحات.
ويجري تعريف «الاستراتيجية» أيضاً على أنه «العنصر الإلزامي لسياسة خارجية ناجحة ضمن مفهوم طويل المدى يقوم على تحليل دقيق لجميع الوقائع ذات الصلة». ثم يأتي ثانياً جهد رجل الدولة في تنقية تلك الرؤيا من خلال تحليل وتشكيل حزمة من الطموحات، والضغوط المتضاربة، في اتجاه متماسك وهادف. وعليه (أو عليها) أن يعرف الى أين ستؤدي تلك الاستراتيجية ولماذا. وعليه، ثالثاً، أن يتحرك على الطرف الأقصى من الممكن، بغية جسر الهوَّة بين تجربة مجتمعه وما يصبو اليه لأن الوقوع في تكرار ما هو مألوف ومعروف يؤدي الى الركود والاستنقاع، وبالتالي فإن الأمر يستوجب قدراً غير قليل من الجرأة».
في كل مسألة تقريباً، كان سكوكروفت يقارب الأمر بنوع من التحفظ والشك انطلاقاً من معرفته به، جواباً عن التساؤل عما يمكن أن يحدث في حال التعثر أو الإخفاق؟ وتبعاً لذلك يشدِّد سكوكروفت على وجوب أن يقدم مستشار الأمن القومي الى الرئيس ما يعتقد (أو تعتقد) بأن يعرف، لا ما يرغب في سماعه.
إن من الصفات التي ميَّزت سكوكروفت «قدرته على الموازنة بين استخدام القوة بحزم من جهة، وبين تلطيف تلك الحدَّة بالحصافة والتعقُّل من جهة ثانية. فهو قلَّما عارض التصرف بجرأة عندما تلوح الفرصة، أو عندما تكون المصالح الحيوية على المحك».
وفي هذا يتفق سكوكروفت مع الفيلسوف والمفكر السياسي الروماني القديم سينيكا (من السنة الرابعة قبل الميلاد حتى السنة ٦٥ بعد الميلاد، وكان مدرِّساً ومستشاراً للإمبراطور الروماني نيرون) حيث نقل عنه كاتب كتاب «الاستراتيجي» قوله: «الحظ هو نتيجة لاقتران الاستعداد بالفرصة السانحة».
لقد كان سكوكروفت أنشط من غيره في إدارة جورج بوش الأب لتحفيز تلك الإدارة على القيام برد عسكري لإخراج صدام حسين من دولة الكويت بعد احتلاله لها في شهر آب/أغسطس من عام ١٩٩٠، مع أنه وتلك الإدارة كانا قبل احتلال الكويت على علاقات طيبة جداً مع العراق بفضل جهود نزار حمدون السفير العراقي في واشنطن. فقد كانت الولايات المتحدة يومها تزوِّد العراق بالأغذية، والتسليفات المالية، والمعلومات الاستخبارية، والتحركات الديبلوماسية. كذلك نشأ الدعم الأميركي للعراق خلال حربه مع إيران بفعل الدعم الديبلوماسي الذي بذلته المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، وجمهورية مصر العربية، ودولة الكويت، لاستحثاث الولايات المتحدة على دعم العراق لكونه في نظرهم يشكل عقبة كأداء في وجه التمدد الإيراني.
هزَّ الغزو العراقي للكويت واشنطن وإدارة بوش. وقد شعر سكوكروفت نفسه بأن صدام حسين خان داعميه العرب في الخليج ومصر، وخدع الولايات المتحدة على الرغم من كل الدعم الذي قدمته الى العراق. عزم سكوكروفت على منع إعطاء أي حوافز أو مكافآت الى صدام لقاء انسحابه من الكويت. فعلى الرئيس العراقي أن ينسحب من الكويت من غير قيد أو شرط، وإلاّ فإنه سيواجه كامل ثقل الآلة العسكرية الأميركية. وفي النتيجة قامت الولايات المتحدة بإخراجه من الكويت في شهر شباط./فبراير من عام ١٩٩١. وفي الوقت ذاته أشار سكوكروفت على الرئيس بوش الأب عدم مواصلة الحملة الى بغداد، وهو موقف عرَّض المستشار سكوكروفت الى تهجمات قاسية من قبل المحافظين الجدد والفئات الموالية لإسرائيل.
وبعد أحداث ١١ أيلول/سبتمبر (الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها نيويورك في ذلك اليوم من عام ٢٠٠١)، عكفت إدارة الرئيس جورج بوش الإبن في العام التالي ٢٠٠٢ على إعداد خطط للهجوم على العراق، فبدأ سكوكروفت يجاهر باعتراضه على خطط الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني لاحتلال العراق.بل إنه عارض توجُّه تشيني الى قبول آراء المؤرخ اليهودي برنارد لويس في جامعة برينستون كما هي من غير أي موقف نقدي منها. والمعروف أن تشيني دأب على التشاور مع المؤرخ المذكور بعد أحداث ١١ أيلول/سبتمبر من عام ٢٠٠١. وكان برنارد لويس يقول لتشيني ورامسفيلد وآخرين: «أعتقد أن الشيء الوحيد الذي عليكم أن تفعلوه بالعرب هو تسديد ضربة اليهم بين أعينهم بعصا غليظة»، لأن العرب، حسب زعمه، «لا يحترمون إلاّ القوة»!
فقد وجد سكوكروفت «أنه من المذهل أن يقبل تشيني تحليلاً عنصرياً تبسيطياً كهذا التحليل غير المستنير. كما أنه شكَّك بادعاء تشيني أن العراق قام بشراء خام اليوانيوم من بلاد النيجر على الرغم من انتفاء أي دليل على ذلك. أيقن سكوكروفت عندئذ أن تشيني قد فقد صوابه وحكمه المتأني على الأشياء، كما فقد نزاهته الفكرية».
في شهر آب/أغسطس من عام ٢٠٠٢، كتب سكوكروفت مقالاً في جريدة «وول ستريت جورنال» حذَّر فيه من مغبة الهجوم على العراق وما سيترتب على ذلك من نتائج. فقد رأى أن الهجوم على العراق سوف يؤدي الى تفتيت المنطقة، ويرفع أسعار النفط، ويغذِّي التطرف. وكان رأيه أن تعمد الولايات المتحدة، بدلاً من ذلك، الى محاربة الإرهاب لا مطاردة صدام حسين الذي أصبح وقتها محصوراً في قفص. هذا المقال الصحافي الذي كتبه سكوكروفت أنزل عليه غضب إدارة بوش ـ تشيني وأكسبه عداوة المحافظين الجدد. فبدأت ضده حملات تلفزيونية وصحافية، لكن ذلك لم ينل منه ولم يزحزحه عن موقفه قيد أنملة.

ومع الأسف، فإن النتيجة النهائية لحرب العراق هي وحدها التي، بعد فوات الأوان، شهدت بحكمة سكوكروفت، وشجاعته، ومتانة أخلاقه.&&&&

هذا المقال تنشره " إيلاف " بالاتفاق مع تقرير
" الديبلوماسي " الصادر في لندن&