مر العراق الحديث ، منذ بداية العشرينات الماضية، بمراحل واطوار مختلفة، كانت فيها مآسي كثيرة، وانتهاكات وتخلف، وانتشار للامية، وغير ذلك من معوقات التطور الديمقراطي .. كانت ، مثلا مذبحة الاشوريين في الثلاثينات، ومذبحة اليهود عام 1941 ، مع سلسلة اعدامات، في عهود نوري السعيد. وجاءت مجزرة العائلة الملكية، وظاهرة السحل بالحبال او الاعتداء على الجثث، وانتهاكات كركوك والموصل، والصراعات السياسية، والتآمر الداخلي والخارجي على ثورة 14 تموز، ثم الاجهاز على الثورة وقتل زعيمها، في انقلاب فاشي، وفي الثمانينات ، تهجير الكورد الفيلية، وثم غزو الكويت، والحرب، والانتفاضة وقمعها الدموي، وحلبجة، والانفال ، والمقابر الجماعية، والعدوان على مراقد مقدسة، والحملة الايمانية، وغيرها...
غير انه، الى جانب تلك المحطات والحالات المظلمة والمأساوية، هناك ايام مضيئة ذات رموز انسانية مشعة، سواء الحركة النسائية الصاعدة والنهضة الثقافية وروح المواطنة، والى الجيد من التماسك والتعايش الاجتماعيين.&& الاجتماعات المتحضرة، ذات التقاليد الديمقراطية والمواطنين المتعلمين، والتي فصلت منذ قرون بين الدين والدولة، تنتقل من الجيد الى الاجود، واذا اعترتها عقبات ومرت بانتكاسات، فانها سرعان ما تنهض لتخطو خطوات جديدة الى الامام.
اما ما حدث في العراق بعد سقوط النظام البعثي، فانه العكس، وانصافا، فهذا ما حدث ايضا مع بلدان عربية اخرى، شقت المرأة نضالها واسناد القوى النيرة طريقها منذ اواخر العشرينات، وصولا الى مركز الوزارة في عهد عبد الكريم قاسم.
لقد ورثت العشرينات مواريث الجهل والتخلف ولاسيما في النظرة للمرأة والخوف يذكر لنا الخليلي في كتابه (هكذا عرفتهم) حادثا طريفا في بداية العشرينات حين طرح مثقفون متنورون فكرة اقامة مهرجان ثقافي باسم (سوق عكاظ) تذكيرا بسوق عكاظ القديم كانت الشاعرة الخنساء تدخل على ظهر جمل وهي تنشد قصائد في رثاء شقيقها القتيل. ورأى القائمون بالمشروع ان لابد من انثى تقوم بدور الخنساء، فوقع الاختيار على الصبية الصغيرة صبيحة الشيخ داوود، ابنة عين من& اعيان بغداد.. وافق الاب ووافقت الزوجة، ولكن من حولهما من رجال دين& استنكروا وذهبوا شاكين للملك فيصل الاول ولكنه ابدى موافقته على المشروع وقال انه سيكون حاضرا في المهرجان ، ولما دخلت الصبية وهي تنشد ، حدث ما يشبه الزلزال بين المحافظين، وانهالت ردود فعل استنكارية بعد المهرجان، حتى وصلت الى النجف.& صبيحة صارت احدى اهم رائدات الحركة النسائية في العراق ، ودخلت كلية الحقوق ونجحت بامتياز. وكان لها صالونان مفتوحان ، احدهما لرجال السياسة العراقية والدبلوماسية والثاني لرجالات الادب والصحافة والفكر، كما كانت تفعل الاديبة المصرية مي زيادة. كان المفترض ان يكون العراق قد اهتدي بالحركة النسائية في تلك العهود ، وان يطورها بعد ان وصلت لمركز الوزارة وصدور& القانون المدني للاحوال الشخصية زمن الثورة... وعندما ننظر اليوم، فان العكس هو ما يحدث ، من فرض الحجاب حتى على الصغيرات ، بل وعلى المسيحيات، ومن الفصل بين الجنسين في التعليم، ومن الغاء القانون المدني لصالح احكام الشريعة، وصولا الى مشروع (القانون الجعفري)، الذي صاغه حزب الفضيلة وايده نوري المالكي، والذي يبيح زواج الصغيرات دون التاسعة، وزواج المتعة، وما يدخل في ذلك. نعم هناك نائبات في البرلمان، ولكن منهن من يعتقدن ان الرجل قوام على المرأة.
والنساء النبيهات والواعيات اما مهمشات في الداخل او هن في المنافي . اما ابرز المدللات وذوات الصوت المرتفع، ومنهن هذه النائبة المحترمة التي اعتادت ضخ السم الطائفي والتحريض على الكراهية والعنف، مرة ضد السنة ومرة ضد الاكراد.
واليوم نكتشف ان لجنة النزاهة ستحقق من املاك هذه السيدة الموجودة في اربيل بالذات.

***
كما صار العراق اليوم في مقدمة دول الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة كلها، وثمة عسكريون "اشباح" ورجال حماية "اشباح" وتلاعب بقصور الدولة واملاكها، وتبذير الملايين والمليارات بلا تدقيق موضوعي وجريء. اما في عهد قديم، في العشرينات والثلاثينيات فقد كان وزير المالية ساسون حسقيل، الذي ساهم في تثبيت عائدية الموصل للعراق. كان ساسون يدقق بصرامة، حتى في ابسط مصروفات البلاط الملكي، وصارت له شهرة واسعة بين الناس بحيث راحوا يقولون لمن يشدد في المحاسبة "لاتحسقلها" .
وكان عبد الكريم قاسم يقيم في بيت بسيط لا يعود له، وقتل وفي جيبه نصف دينار. وحين ورث قطعة ارض في الصويرة امر بتحويلها الى مدرسة بنات. اما حين نرى رجال الدين، ولاسيما، من الشيعة، يتدخلون اليوم في الصغيرة والكبيرة من شؤون السياسة والدولة، (اقتصاد، كهرباء، مالية، انتخابات،& استراتيجية عسكرية... الخ) فان المرجع الديني السيد ابا الحسن (في الثلاثينات والى 1947 حيث وفاته) لم يكن يفعل شيئا من ذلك. وهو نفسه من وقف، قيل تبوئه المرجعية مع المصلح الشيعي محسن الامين، من رفض الطقوس التي تمارس من عاشوراء من سلاسل وشج الرؤوس.
والعلامة الشيخ محمد عبد الحسين آل كاشف الغطاء، تدخل في منتصف 1935 في السياسة مع ياسين الهاشمي ضد علي جودت الايوبي، مما ساهم في شق عشائر الفرات الاوسط. فوجه فريق منها خطابا انتقاديا له، قائلين ان عليه، وهو رجل دين عدم التدخل في السياسة.
وقد تراجع الشيخ ولم يعد يتدخل في الشؤون السياسية .
وجدير بالذكر ان عهودا مضت من تاريخنا الحديث شهدت عشرات من ساسة الشيعة اللذين كانوا يدافعون عن القيم الانسانية ويرفضون الطائفية مع مطالباتهم السلمية بتطوير دور الشيعة في الحياة العامة. ومن هؤلاء جعفر ابو التمن ومحمد رضا الشبيبي ومحمد الصدر وسعد صالح وآخرون. وعندما كادت فتنة طائفية تندلع في بداية الثلاثينات بسبب كتاب استاذ سوري يتحامل على الشيعة ، اصدر ابو التمن بيانا يطالب فيه الشيعة بالهدوء وتجنب الفتنة. وهذا هو الذي حدث .
اما اليوم فان قادة الاحزاب والميليشيات الشيعية والكثيرين من رجال الدين الشيعة راحوا يغذون الغرائز الطائفية التي من شأنها توتير الاجواء وربما التشجيع على الصدامات الطائفية. ومنهم من لا يترددون عن اعلان ولائهم لإيران علنا وانه لولا ايران لما استطاع العراق ان يفعل شيئا، بل حتى بعض الدبلوماسيين في الخارج صاروا لا يتورعون عن كيل المديح لايران وعن الحديث عن انصار الحسين وانصار بني امية. وكان المالكي هو نفسه من وصف اتباعه بانصار الحسين ووصفه خصومه السياسيين والمعارضين السنة بكونهم انصار يزيد. وهكذا نرى رجالات سياسة ودبلوماسيين ومثقفين ورجال دين يتسابقون في نشر العنعنات الطائفية.
هناك الكثير مما يمكن قوله في الموضوع واما عن المقارنة بين التطور الثقافي في تلك الايام وعن الاوضاع الثقافية اليوم، سوف نكرس له مقالا آخر.
بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال نشرت المنظمات الدولية المختصة احصاءا عن تزايد حالات زواج القاصرات في العراق من 3./. عام 2003 الى 12 0/0 في الوقت الحاضر&