هناك شاعران لايبدعان القصيدة:&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
شاعر يبالغ في الوصف حتى تفقد القصيدة قيمتها ومعانيها، وشاعر يوغل في الرمز حتى لا نجد القصيدة.
لكن شاعرا عبقريا كنزار : يخلق المفردات البسيطة ليكتب القصيدة العظيمة دون مبالغة في الوصف أو إيغال في الرمز فتولد القصيدة بين أصابع يديه كعروسة جميلة ناضجة يشعر كل من يشاهدها أنها عشيقته التي سيفوز بقلبها.
لذلك فإنه برحيل نزار .. رحل الشعر الجميل الذي يقرأه كل الناس بمختلف أعمارهم وثقافاتهم وظروفهم .. وفقد الناس ثقتهم في لغتهم وفهمهم .. لأن شعر نزار كان يعطي للناس قيمة وثقة في النفس تدفع المرء أن يبحث عن كتاب شعر وهو في كامل أناقته فيشعر كل رجل وكأنه أجمل عاشق وأنبل ثائر أمام النساء اللاتي يعشقن شعر نزار وكل واحدة منهن تشعر أنها وردة تمشي على قدمي إمرأة وتغني بصوت فيروز .
غاب نزار وبقي شعره بمفرداته التي تسلب بصر العين حين تقرأه وتطرب له الأذن وهي تهيم في الإنصات& الى جرس موسيقاه الملحنة بشكل سمفوني أوبرالي كإبداع شعري نزاري عبقري لايستطيع أن يبدعه شعر الغارقين في الوصف الممجوج بجفاف الكلمات أو شعر الموغلين في إفراط الرمز .
وغالبا ما يلجأ الشاعر الذي لا يملك موهبة المبدع أو العبقري الى الوصف المبتذل أو الرمز الذي يحتاج الى معجزة لفك شفرة رموزه بسبب العجز في خلق المفردات والأفكار الخلاقة نتيجة ضعف الملكة التي يملكها الشاعر الذي قد يملك ربع أو عشر أو خمس موهبة مع جفاف مشاعر وفقر أحاسيس وإنعدامٍ لذوقِ ونزعةِ عاشق ثائر ... عكس نزار الذي ملك كل تلك المقومات العظيمة& فكان طوال تاريخه الشعري عاشقاً ومعشوقا ... ثائراً ومثيرا .. تتدفق المشاعر الجميلة في صوته وبوحه ويصل إحساسه الشعري ليجعل من الأغنية التي تنتقي كلماته : ملحمةً طربيةً وعرضاً أوبرالياً وسيمفونية كلاسيكية حسب ذوق المستمع ومزاجيته وانسجامه النفسي والروحي لحظة الإستماع .
وبرحيل شاعر كنزار ... لم يعد للمقهى الشعري صدى مسموع، ولا لرائحة أوراق الكتيبات الشعرية الصغيرة عبق يثير شهوة القراءة .وتيتمت بعد رحيله مقاهي الشعر في شارع الحمراء وشوارع لندن وكل الشوارع التي وطئتها موهبته النادرة التميز!
وتحول الشعراء الى فحول بدون رجولة .. والنساء فقدن شهية ممارسة الحب العذري في غياب الرجل الأنيق الذي يتعطر بالبرفيوم الباريسي ويلبس أحلى الثياب إحتفاء بقراءة القصيدة النزارية وهو يلقيها بين يدي حبيبته .
لم يعد الشعراء في غياب شاعر ملهم كنزار .. يبحثون عن إعجاب العشاق والثائرين بقدر مايبحثون عن إعجاب من يدفع شيكا أو يمنح هدية حتى لو كان المانح أرخص من هديته . والشاعر عندما يفتقد حس العشق .. لايستطيع أن يكون جذابا مقنعا .. ولم يكن الشعراء العباقرة على& مر التاريخ إلا عشاقا تتفجر في قصائدهم مشاعر الحب لكل شيء جميل وترتقي بهم الأحاسيس النبيلة كي يلهموا الناس نزعة التحرر من قيود القبح والجهل والخرافة والخنوع.
فكان أولئك الشعراء كنزار ... عشاقاً وثوارا ...
ولو عاش نزار حتى وقت ربيع العرب الآفل وهجه بفعل غياب الشعراء العاشقين الثوار .. لتحولت أوراق ذلك الربيع الى& لون أخضر صاف وشممنا روائح وروده الزكية .
لأن قدرة شاعر عبقري كنزار قمينة بأن تدفع الربيع حتى يصل مداه الثوري بروح العشاق وليس كما حدث لذلك الربيع الذي تصدى له من ليسوا على علاقة بالعشق أو الثورة ... فحولوا فصله الأخاذ الى مآتم .
الشاعر اذا لم يكن ثائراً عاشقاً ليس بشاعر وإنما& "شاعور" أو شويعر..& والثورات الربيعية الناجحة لا يتقدم صفوفها إلا من يرددون قصائد الشعراء العشاق الثائرين .. وهذا ماجعل من ربيع تونس في أيامه الاولى أن يحقق معجزته بسبب ترديد كلمات من قصائد الشابي ذلك الشاعر العاشق الثائر . وعندما عبث القراصنة ببوح الربيع عادوا به الى رداءة الطقس فتلونت أوراقه بالسواد وانبعثت روائح كريهة لا علاقة لها بعطر بساتين الربيع وأريج أزهاره.
كان العرب يطلقون على الشاعر المبدع إسم الفحل ... والفحولة هنا : ليست كفحولة التيس بقدر ماتكون المزج بين أحاسيس العاشق ونبل الثائر .
أما في عصر العرب المنحط شعرا وفكرا فقد أصبحت الفحولة منوطة بكل فاقد للرجولة يبيع قصيدته وفكره ومبدأه وحتى حبيبته مقابل أن يقبض شيئا لا علاقة له بالفحولة ولا بالعشق والثورة .
بل أن أغلب المتاجرين بقيم الإنسان التي قامت من أجلها الثورات وتغنى في حريتها الشعراء العشاق الثوار هم : أولئك الذين يملكون مخزونا هائلا من العداء ضد الوردة والمرأة والأنشودة والقصيدة... ففي هذا المربع الجميل يكمن سر عقدة الفاقدين حريتهم وكرامتهم بسبب ما غرسته تلك العقدة في عقلهم الباطن لتنتفض ثوراتهم المضادة ضد الجمال والحق& والحرية.
رحم الله نزار الذي خاطب حبيبته العفيفة، يرجوها أن تتقدم صفوف الثوار لتصنع منهم أبطالا ولهم شيم وقيم ورجولة فلا يعلقون المشانق ويذبحون الأطفال ويبيعون النساء من أجل سفك دماء الحرية وإنما لكي يغرسوا بذرة البهاء والصفاء والتحرر من كل قيد يمنع الإنسان أن لا يمارس حقه الطبيعي في العيش بكرامة بعيدا عن شعوذة وسمسرة فاقدي الإنتماء الى الإنسانية .......... قال بكل شموخ :
إني لا أؤمن في حبٍ..
لا يحمل نزق الثوار..
لا يكسر كل الأسوار
لا يضرب مثل الإعصار..
آهٍ.. لو حبك يبلعني
يقلعني.. مثل الإصرار !
بل أن شاعرا نبطيا وفارسا بدويا مقداما هو راكان ابن حثلين الذي كان يملك حس القائد المقاوم ضد المستعمر التركي الذي إحتل الأحساء قبل أكثر من قرن وقد سجن في اسطنبول سبع سنين بسبب تلك المقاومة وخرج من السجن بفعل عمل بطولي يعرفه المؤرخون، حين ضُيِّق عليه الخناق& في أحد المعارك ليجد الجمع أمامه والبحر خلفه كقائد يمتطي حصانه الأشهر في المنازلة لم يجد إيحاءً أجمل من تخيل وجه حبيبته لحظة التفكير& في صنع الإنتصار على العدو والخروج من الحصار المفروض عليه، فقال عبارته الشعبية الشهيرة متخيلاً وجهها الطاهر الجميل قبل أن ينتصر بفعل استلهام صورة الجمال النابت في الوجدان العاشق بشرف :
صفين والثالث بحر ... والله لأشق الصف لعيون براق النحر .
& رحل& نزار قبل أن يرى عجائب الثائرات بلا نزق يذهبن لتقديم الأجساد المقهورة تحت أمراض الكبت، ليس من أجل أن يكسرن سوراً مانعاً لحريتهن وإنما عشقاً في البقاء منحنيات وسط ظلمة أدمنَّ العيش فيها تحت وطأة الكارهين لرؤية نور الشمس يتلألأ فوق الرؤوس المنكوسة!
وكان يخاطب حبيبته العفيفة& التي تثور بعقلها وفكرها وشموخها وهي تعانق الثوار الحقيقيين من أجل الحرية& ولاتثور بجسدها وشهوتها وانبطاحها دفاعاً عن ممارسة الإنكسار والجريمة& :
& إرمي أوراقك كاملةً..
وسأرضى عن أي قرار..
قولي. إنفعلي. إنفجري
لا تقفي مثل المسمار..
لا يمكن أن أبقى أبداً
كالقشة تحت الأمطار
إختاري قدراً بين اثنين
وما أعنفها أقداري..
مرهقةٌ أنت.. وخائفةٌ
وطويلٌ جداً.. مشواري
غوصي في البحر.. أو ابتعدي
لا بحرٌ من غير دوار..
الحب مواجهةٌ كبرى
إبحارٌ ضد التيار
صلبٌ.. وعذابٌ.. ودموعٌ
ورحيلٌ بين الأقمار..
يقتلني جبنك يا امرأةً
تتسلى من خلف ستار..
هكذا كان المعنى الأسمى للحب عند نزار: ثورة ضد كل شيء قبيح كي يسود الجمال الصافي، ففسره الجسديون عكس ما يعنيه نزار واستغلوا جهل الإنسان العربي وذلك التفسير القبيح لثورة الحب لصد الناس الهائمين في شعر نزار كيلا يتعلموا شيئا من العزة والإباء . ثم عادوا يثورون للجسد كي تنتصر الشهوة على الحرية!
[email protected]
&