(23)

يتزايد عدد المكفرين في واقع العرب أمام تناقص عدد المفكرين إن لم يكن إنقراضهم كمؤشر خطير علي إنهيار أمة هي أصلا تعاني من تخلف في كل المستويات الثقافية والإقتصادية والإجتماعية والتعليمية وغير ذلك من شئؤن الحياة الخاصة والعامة في زمن بلغت فيه الأمم الأخرى مستويات عالية من التقدم، مما يجعلنا ندعو الى حتمية إنبعاث أو خلق ثورة فكرية تنويرية كتلك التي حدثت في أوروبا قبل الثورة الصناعية التي قادت أوروبا للخروج من عصورها المظلمة الى عصور النور لتتسيد عبر القرون الماضية وحتي حينه زمام الحضارات المتعاقبة.

إن الفكر الذي لا يستطيع التعايش والتفاعل مع حضارات الآخرين في محيطه العالمي كالفكر الذي ينتجه العقل العربي في عصرنا الحالي : هو فكر لايستطيع أن ينتج سوي العنف كردة فعل ضعيفة ضد العجز والفشل المنبعث من النفس المنهزمة أكثر مما هو ردة فعل ضد الآخر، تحت تبريرات واهمة ومستندة على فهم مزور وخاطيء للدين الذي يجب أن يكون دافعا للإنسان كي يتعايش مع الآخر، لا.. أن ينعزل. وأن يتحاور بالعقل والحكمة وليس بالعنف والكراهية. لأن النفس عندما تمتليء بالضغينة كنتيجة حتمية للهزيمة الأخلاقية والحضارية والمعرفية تلجأ الى تحميل الآخر مسؤلية فشلها وانهزاميتها لتبرر ردة فعل إنتقامية ضد من يمثل صورة النجاح الذي فشلت النفس المنهزمة من الوصول إليه، وهو طبع بشري يختزنه اللاوعي كوعاء للتنفيس وقت الشعور بالعجز والهزيمة. لكن ذلك الشعور حينما يكون ناتجا عن لاوعي جماعي فإنه ينذربإنحدار أمة نحو الإنهيار الأخطر.
من ذلك العقل المخبوء على شكل حجر أصم وسط جمجمة مظلمة ينبثق النور كمثل أعلى للفكر المضيء المنبعث من جوف الجهل المستبد ليعانق نسائم الحرية مثلما ينبلج الفجر من جوف العتمة ليعانق أشعة الشمس.

لكن الفكر المضيء لا ينبعث وسط محيطه المستبد سوى بقوة دفع ذاتية للنور داخل العقول التي سئمت الخنوع للخرافة ولا يمكن لأمة أن تنعتق من عتمتها دون ثورة فكرية تنويرية يتصدرها المفكرون المتسلحون بنور العلم والمعرفة ويتضاءل خلف وهجها المكفرون الذين يكفرون بكل قيم الحرية ومبادئها العظيمة فيلجأؤن إلى ممارسة التكفير ضد كل شيء يحرر الإنسان من عبوديته لجهله وقهره وخرافته... لأن محبة الله والتسليم بعظمته والإيمان الخالص لوجهه لاتحتاج الى الكفر بقيم الحرية تحت مبررات إيمانية، والإيمان السوي لا يصبح إيمانا حقيقيا في ظل غياب الحرية الأسمى والأكثر قداسة عند من يؤمن إيمانا صادقا بالله .
&صحيح أن العالم كله يشهد مرحلة عالمية تتعرض فيها القيم الى الكثير من الهزات التي تكشف صدق إدعآت الشعوب ، حين يدعي كل منهم أنه يملك القيم الأصدق والأنقى وذلك بفعل العولمة التي أصبح العالم كله بسببها يعيش عولمة ثقافية وتكنلوجية ومعرفية وسياسية.. وحتى الإرهاب لم يعد محصورا في واقع العرب بقدر ما أصبح فعلا معولما يشاهده الناس في باريس ولندن ونيويورك ومدريد مثلما نراه في بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء وغير ذلك من البلدان العربية.

لكن عالم الغرب بفعل المحيط الديموقراطي الذي يوفر مناخا حرا للتعبير والنقد : يمنح فرصة كبيرة للتصحيح والتغيير، عكس عالم العرب الرعوي الذي يقمع فيه اللاوعي الجمعي (وليس الوعي ) كل مرحلة جديدة للتغيير والتعبير لتفوت معها الفرص وتمضي العقود دون تغيير فعلي يجدد الدماء الآسنة والفكر القابع في زنازين العقول التي مابرحت تعيش ماضيا لم يعد له علاقة بالعصر الحديث.

لقد سبق الإمام علي عصره عندما قال ملهَما وملهِما قبل ألف وأربعمائة سنة ( ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم ) كدليل على حتمية الإنفصال بين فهم المسلمات بين الأجيال، والتي يجب أن يفلسفها عقل كل جيل حسب المتغيرات والمستجدات الفكرية والعلمية والمعرفية التي تطرأ على كل مرحلة من مراحل الحياة وتحمل كل مرحلة ناتجا جديدا مغايرا للقديم يحتم على العقل أن يتعايش معه بأساليب وأدوات جديدة ومنطق مختلف كل الإختلاف في ظل ظروف تختلف كليا عن ظروف المسلمات القديمة. وهذا ما دفع مفكرا وعالما بارعا كرينيه ديكارت : ذلك التنويري الذي مهد لثورة العقل الأوروبي ضد السائد القديم والمسلمات البالية التي أصبحت محط شك عقل ديكارت أن يبتدع منهج الشك المنطقي للوصول الى اليقين الذي لا يستمد بالتلقين والتوريث للفكر بقدر ما يقوم على رفض الفهم المتوارث لكل مسلمة والبدء من جديد في خلق فهم آخر لكل المسلمات القديمة والحديثة حسب معطيات العقل الحاضر الفاعل وليس بناء على ماتركه الفهم القديم لمسلمات ليس بالضرورة أن تكون جميعها خطأ.. أو صواب، بقدر ما تكون قابلة لنسبية الصواب والخطأ كجزء من حقيقة الحياة وليست الحقيقة كلها التي لايستطيع أي عقل أن يدعي أنه يمتلكها سوى العقل الذي لا يملك شيئا منها!

في ظل العولمة بكل أشكالها المختلفة.. تتمازج الثقافات والأفكار والحضارات.. فيختلط الجيد بالرديء، والقوي بالضعيف، والراكد بالصافي، والثابت بالمتحول.
&والصحيح أن يستفيد الأقل تحضرا وتمدنا وتطورا من نظيره المتفوق عليه في أشياء كثيرة وأن يستفيد الضعيف من تجارب القوي والجاهل من المتعلم ويسير المتخلف خلف خطوات المتقدم كي يختصر عناء إكتشاف الطريق ويتجنب الكثير من مخاطر وعورته ... لكن العرب بشكل عام لا يأخذون من الآخر سوى أقل وأسوأ ماعنده.. في الوقت الذي لايعطون شيئا ذا أثر جميل غير ما يعرفه العالم عنهم في هذا العصر : كإرهابيين لا يملكون القدرة على صناعة الحضارة والتفوق. بل أنه من المضحك المبكي أن العرب لايتفاخرون أمام حضارات الآخرين وتفوقهم سوى بإنتاج القليل من المنتسبين الى ثقافتهم : أولئك الذين يصبحون محل فخر وإعتزاز أمام الغرب في مقارنة التفوق الحضاري وفي ذات الوقت يعتبرون زنادقة ومارقين حسب التنابز والاختلاف الفكري المذهبي لدى البعض حينما يمارس إقصاءه الفكري المؤدلج ضد الآخر المنتمي اليه في الثقافة والدين ، كزندقة إبن رشد وإبن سيناء مثلا.. اللذين يعتبران فلسوفان تنويريان عند الغرب مما يدفع بعض من يمتهن الثقافة الإقصائية العربية أن يمارس دورا مزدوجا متناقضا في إستخدامه لإسم العالمين الفلسوفيين حسب حاجته للتفاخر أو للتنابز وهي حالة مرضية تدل على خلل في الفكر الممارس لتلك الإزدواجية إن لم يكن دليلا بينا على عدم وجود فكر لدى صاحب ذلك الدور المزدوج سوى : أن يمارس الشيء ونقيضه لهدف غير واضح المعالم!

ولأن واقع العرب يكاد أن ينقرض فيه أهل الفكر التنويري الذين يسيرون على خطى أولئك المفكرين (النخبة ) الذين أضاءوا سماء أوروبا في عصر ظلمتها حين كانت تتناحر وتتقاتل بإسم الدين وتحارب كل صوت نقي وفكر مضيء مثلما يحدث للأسف في عالم العرب الآن... فإن الدور التنويري المراد خلقه الآن في واقع العرب لا يستطيع أن يقوم به سوى القائمون على الحكم في كل البلدان العربية. عبر إستنهاض المؤسسات والمنابر التعليمية والمعرفية والدينية بجميع عناصرها الفاعلة بعيدا عن الطرق التقليدية التي تؤديها تلك المؤسسات والمنابر التي لا تمارس دورا تنويريا في أغلبها بقدر ما تمارس أدوارا تجهيلية . لأنه في ظل إنعدام النخب المفكرة العربية التنويرية، وتزايد أعداد التكفيريين وسط مجتمعات عربية أقرب الى الإنحطاط الحضاري، وبسبب التخلف العلمي والإقتصادي وانعدام مراكز البحوث : تقوم الثورات المضادة التي يقودها الغاضبون وأكثرهم لا يحملون فكرا تنويريا بقدر ما يحملون فهما قديما لمسلمات قديمة يعتقدونها ثوابت مقدسة وهي في حقيقتها ضد كل شيء بمافيه الثوابت المقدسة التي تؤمن في حق الفرد أن يختار حتى إيمانه بكل قناعة و بدون قسر، مما يجعل من الثورات خطرا يعيد الشعوب للوراء أكثر من قيادتها الى الأمام، وهذا ما لاح في أفق العرب عبر ثوراتهم الغوغائية التي أتت لتزيل الإقطاعي وتضع بدلا منه المتاجر بالدين عكس ثورات العالم التي قامت بفعل فكر التنويريين ونهضت بالشعوب نحو عصور أكثر تقدما وتطورا عندما عزلوا كل المتاجرين بكرامة أممهم وعقولها سواء كان أولئك المتاجرون بكرامة الشعوب وعقولها : إقطاعيين أو رجال دين . ليصبح الدين خالصا نقيا لوجه الله وتنتعش الأوطان في ظل ثورة العلم والفكر والمعرفة التي قادتها العقول المستنيرة والمؤمنة إيمانا صادقا لا يستخدم الدين كوسيلة للسيطرة والإكراه المؤديين في نهاية الأمر الى الكفر بكل القيم والمباديء العظيمة.

ومع الثورات الغوغائية التي لم يقدها فكر تنويري، تفقد الشعوب أنظمتها واستقرارها ولا تصنع حريتها فتتمنى تلك الشعوب لو عادت للعيش تحت حكم أنظمة استبدادية مثلما حدث في العراق وليبيا بدلا من الفوضى التي أكلت الأخضر واليابس فيكون الجميع خاسرين : حكاما ومحكومين، ويربح الإرهاب وتجاره المعركة، لأن أولئك المتاجرين بمقدرات الشعوب وأمنها واستقرارها لا يطمحون أن يعيشوا في ظل أنظمة حرة وديموقراطية، ولا في ظل أمن واستقرار الأنظمة الشمولية. فيأخذون الأوطان نحو عالم آخر من الفوضى والقتل تفتقد فيه تلك الأوطان القدرة على البقاء ولتصبح مجرد محطات لصراع عصابات تتاجر بمستقبل شعوب لم تقدر أن تخلق فكرا تنويريا يقودها نحو السلام والأمن والحرية!
لذلك، فإنه لامناص من ثورة فكر جديد يقودها حكام تنويريون للسير بشعوبهم نحو دروب آمنة بعيدا عن نرجسيات الداعين الى تأسيس أنظمة (مدمقرطة ) لشعوب لم تنضج كي تعيش واقع الحكم الديموقراطي، مادام أن تلك الشعوب قد أصبحت بيئة حاضنة وواسعة للفكر التكفيري أكثر من إحتضانهم للفكر التنويري.

قد يقول البعض ممن يحسبون أنفسهم مفكرين نخبويين تنويريين : إن الشعوب العربية في مجملها أصبحت بيئات حاضنة للفكر التكفيري بسبب ما عاشته تلك الشعوب من حكم أنظمة إستبدادية. لكننا سوف نحيلهم الى أن يتذكروا تجارب شعوب أخرى عاشت تحت حكم أنظمة قمعية إستبدادية مخابراتية إلى وقت قريب كشعوب أوروبا الشرقية، التي ما أن سقطت أنظمتها الشمولية القمعية حتى تحولت بدون صراعات أو إرهاب الى أنظمة ديموقراطية. لأن تلك الشعوب تحمل في وعيها الجمعي فكرا تنويريا لا يحتاج الى عنف كي يفرضه ولا الى صراعات كي يعيشوا عالمهم الحر الجديد. ولأن تلك الشعوب المستنيره في وعيها الجمعي لم تختار الحكومات الإستبدادية في الأصل، وعندما حان التحرر من قبضة الإستبداد لم تختار بديلا إستبداديا آخر. عكس ما حدث ويحدث في واقع العرب الذي ينسجم فيه المثقف وسط حالة تخديرية في ( اللاوعي الجمعي.. وليس الوعي الجمعي كالأوروبي ) لأن العربي لا يملك وعيا جمعيا. فيجد ذلك المثقف العربي نفسه تدافع بقوة وبدون وعي عن حالة إقصائية ضد غيره، ناهيك عمن لا يملك صفة المثقف فيؤدلج الإقصاء مبررا ذلك بغطاء ديني لا يقره الدين ولا يبيحه الشرع بقدر ما تبيحه النزعة التسلطية المخبوءة في روح العربي الذي يرفض أن يعيش إلا قامعا أو مقموعا وهو بشكل عام يعيش مقموعا ( القامع والمقموع )... غير مؤمن في التعايش مع فكر الاخر المختلف عنه بسبب قلة الضوء في عقله الذي لا يحوي فكرا تنويريا كي يضيء لروحه المعتمة بفعل كثافة الظلام المستوحش فيها!

أعيد وأكرر : أنه حان العصر وليس الوقت.. أن تقوم الأنظمة العربية بثورة فكرية تنويرية من الأعلى الى الأسفل، وأن تشمل كل مجالات الحياة لتنهض بالإنسان بعيدا عن الأدلجة.. وأن يتم تقديم أهل الفكر المستنير كي يبدأوا خطوات التنوير على طريق جديد وبوعي متطور ينسجم مع مسلمات الحضارة الجديدة... فتؤسس الأنظمة خلودا لها لا يزول، وتنعم الشعوب بحياة أكثر تمدنا بين شعوب الأرض، ولكي لا يبقى العربي هكذا نغمة شاذة يُنظر له كإنسان بدائي وعدواني ورافض لكل التطور الحضاري.
إن من يحاول أن يقنع الناس أنه بإمكان العرب أن يعيشوا بعقلية العصور القديمة لأجدادهم كمن يظن أنه بإمكان العربي أن يقود جمله أو حماره وسط شوارع باريس ونيويورك ولندن والرياض وبيروت والقاهرة بدلا من سيارة المرسيدس أو حتى الباي سيكل .
أو كمن يحاول إقناعنا أنه بالإمكان العودة الى إستخدام الحمام الزاجل لتوصيل رسالة إلكترونية نصية بدلا من الايميل. أو من يعتقد أنه يستطيع أن ينتصر في الحروب بالسيف والخيل بدلا من الصواريخ وأشعة الليزر وطائرة الشبح. علما أنه عندما يتطور الوعي الجمعي للشعوب وتتجه للبناء وليس للإنتقام فلن تحتاج الى سيف ولا صاروخ أو طائرة، ولنا في ألمانيا واليابان عبرة وقد أصبح شعباهما أكثر شعوب الأرض تمدنا وغنى وتقدما بعدما خلعا فكر الإعتقاد بالتميز ونزعا عن النفس المشتهية للتسلط نزعة الإستحواذ والسيطرة برغم قدرتهما على ذلك سابقا ولاحقا علما وقدرة وقوة، لكن تلك النزعة الخطيرة كلفتهما الكثير من الهزائم والأثمان الباهضة عكس ما جنوه من تفوق حضاري عندما نهجوا طرق السلام والعلوم والتعايش.

ثورات العرب المطلوبة والملحة : هي الثورات التي تقوم بها أنظمة مستنيرة، آمنت في التنوير كحل وحيد للتطور والأمن والإستقرار والعدالة الحقيقية بمختلف جوانبها بعيدا عن العيش في واقع يسيطر فيه الخوف والشك والريبة وتعيش فيه الأطراف : الشعوب والأنظمة حالات عداء وانتقام... يخسر فيه الجميع والأوطان وتحل اللعنة على كل من شارك في إنهيار أمة وضياع أوطان!

أهلا بثورات الأنظمة.. ضد تخلف الشعوب، وسوف يكون هناك بلا شك الكثير من المقاومة للتغيير من قبل العقول التي لا يروق لها العيش خارج الأقفاص المظلمة.. لكن الشعوب في أغلبيتها ستقف خلف كل حاكم تنويري أخذ العهد على نفسه أن يقود الشعوب بإتجاه الفضآت المشعة مهما كان الثمن الذي ستشاركه الأغلبية في دفعه بدلا من البقاء في دائرة الصراع مع الظلام.. وتحت رحمته!
وسوف ينتصر النور والتنوير.. وتنحسر الظلمة بكل ما تحمله من بذور الفناء والتدمير.
تلك سنة الحياة.. لمن يملك إرادة التغيير وشجاعة إتخاذ القرار على مر التاريخ.
لكن التردد والتأجيل والمماطلة : لها سنة أخرى أيضا..تؤدي إلى الهلاك لمن لا يملك الإرادة والشجاعة والعقل المضيء!
أهلا بالفكر التنويري القادم من سماوات رؤس الحكام الى أرض الشعوب المتعطشة للنهوض نحو مستقبل أكثر إشراقا!
فلنبدأ!!&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
[email protected]
&