من سيول: تحتل الجامعات الكورية الجنوبية مراتب متقدمة في التصنيف العالمي وبلغت مستوى أشادت به جهات عديدة مختصة في مجال التصنيف على مستوى العالم. وخير دليل على ذلك هو النهضة العلمية والإقتصادية التي تشهدها البلاد والتي تمت بأيدي كوريين جنوبيين من خريجي المؤسسات التعليمية الوطنية. وقد برزت جامعات عديدة في كوريا لفتت إليها الإنتباه، أبدع خريجوها كل في مجاله وساهموا من مواقعهم في هذا الرقي الحضاري الذي يعرفه الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة، ما جعل سيول وبخلاف بيونغ يانغ تنعت بـ"المعجزة الآسيوية" وذلك بالنظر إلى الزمن القياسي الذي استغرقته عملية البناء التي انطلقت فعليا سنة 1960. وتأتي جامعة سيول الوطنية في طليعة هذه الصروح العلمية الراقية وكذا معهد كوريا للعلوم والتقنية المتقدمة، هذا بالإضافة إلى جامعة "كيونغ هي" التي تتوفر على بنية تحتية راقية وتجهيزات لا تتوفر حتى في كبرى الجامعات الأمريكية. كما أن مخابر البحوث الكورية التابعة لهذه الجامعات أو لغيرها تحقق نتائج باهرة وتحظى بمتابعة المختصين وإعجابهم بما توصلت إليه من نتائج في مختلف الإختصاصات. وتشهد المؤسسات التعليمية الكورية إقبالا كثيفا من الطلبة الأجانب يتزايد من سنة إلى أخرى نظرا للسمعة الطيبة التي باتت تحظى بها، فبعد أن كانت أعدادهم لا تتجاوز ثلاثة عشر ألفا في سنة 2003 أصبحت في سنة 2014 تقارب الخمسة وثمانين ألفا وهم موزعون على مختلف قارات العالم. وتحتل القارة الإفريقية المرتبة الثانية في أعداد الطلبة الأجانب الدارسين في كوريا بعد القارة الآسيوية وطلاب هذه القارة موزعون بالأساس على اللغات والعلوم الإنسانية والهندسة والعلوم الطبيعية والفنون الجميلة والطب. كما أن الأوروبيين بدؤوا في السنوات الأخيرة يقبلون على الجامعات الكورية وتتزايد أعدادهم من سنة إلى الأخرى ويدرسون أيضا في اختصاصات عديدة ومتنوعة وذلك وفقا لتقرير أعده المعهد الوطني الكوري للتعليم على المستوى الدولي. ولا تتجاوز أعداد الطلبة التونسيين في كوريا الجنوبية السبعة وعشرين طالبا في سنة 2014 وفقا لتقرير المعهد المشار إليه، وهو تطور في حد ذاته لأنه قبل سنة 2003 لم يكن لتونس طلبة في الجامعات الكورية. ويدرس هؤلاء بالأساس اللغات في مراحل التعليم المتعددة بما في ذلك الماجستير والدكتورا، ويغيبون تماما عن الإختصاصات العلمية. ويبدو أن أهم عائق أمام التونسيين للدراسة في كوريا الجنوبية، ولاطلاعهم على أحدث ما توصلت إليه مخابر البحوث الكورية في مجال العلوم الصحيحة على وجه الخصوص، وهي نتائج قد لا تتوفر في المخابر الأوروبية، هو عدم إتقان غالبية التونسيين للغة الأنجليزية إتقانا جيدا يسمح بالنهل من مختلف ميادين المعرفة في هذا البلد الآسيوي البعيد. فالفرنسية لا تكاد تستعمل في كوريا الجنوبية ولا يتحدثها الكوريون، بل أن أعداد الكوريين الذين يدرسون العربية من الطلبة يفوق أعداد أولئك المقبلين على لغة فولتير، خاصة وأن البلاد العربية هي سوق استهلاكية ضخمة للمنتوجات الكورية ولدى بعضها من الثروات النفطية ما يسيل لعاب أكثر من بلد في هذا العالم ويدفعه إلى مزيد تكثيف التعاون مع هذا التجمع البشري الهائل في قارتي إفريقيا وآسيا.. فلغة شكسبير هي السبيل للإطلاع على آخر الكشوف العلمية والإبتكارات التكنولوجية وأهم نتائج الدراسات والبحوث التي تجرى في العالمين الأنغلوسكسوني والشرق آسيوي وهي الأمم الأكثر تقدما في هذا العالم. فهي لغة العلم والمعرفة في الوقت الراهن وهي أيضا لغة الإقتصاد والتجارة والمال والأعمال، خاصة مع غياب حركة ترجمة حقيقية ممنهجة تهدف إلى تمكين باحثينا من آخر ما توصلت إليه البشرية من كشوف واختراعات في مختلف أرجاء العالم. ولا تكفي المعرفة السطحية بأبجديات هذه اللغة ومبادئها الأساسية، وهو الأمر الحاصل لدى غالبية خريجي المدارس والمعاهد والجامعات التونسية، بل وجب إتقانها إتقانا جيدا يمكن من الولوج إلى بنوك المعطيات وكبرى المكتبات في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، بالنسبة للباحثين والدارسين والراغبين في الإطلاع على هذه التجربة الكورية الفريدة في عالمنا المعاصر. ولعل اللافت بالنسبة للكوريين هو غياب التعاون بين الجامعات الكورية ونظيرتها التونسية رغم أن تونس بلد متوسطي منفتح على العالم من جهة ورغم أن الدولة التونسية راهنت بعد الإستقلال على التعليم وأولته عناية كبيرة. فهناك على سبيل المثال ستة وعشرون جامعة أمريكية عريقة تتعاون مع الجامعات الكورية على غرار جامعة بوسطن وجامعة نيويورك وبنسلفانيا وميشيغن ونورث كارولاينا وغيرها، وهناك أيضا سبعة عشر جامعة صينية وجامعات يابانية وأسترالية وإيطالية وهولندية وروسية وغيرها. وهناك أيضا جامعات مصرية وسعودية وإماراتية حريصة على تكثيف التعاون مع الجانب الكوري لإدراكها للسمعة الطيبة التي بات يحظى بها التعليم الكوري. وحتى كينيا تتطلع جامعاتها إلى التعاون مع الجانب الكوري والنهل من معارفه، فترسل على سبيل المثال جامعة ستراذمور الكينية سنويا أعدادا من الطلبة إلى جامعة "غوانغ هي" العريقة في سيول لدراسة الماجستير والدكتورا والإستفادة من الخبرات. وتبدو جامعاتنا اليوم بحاجة إلى الإنفتاح على العالمين الآسيوي والأنغلوسكسوني ففي تجاربهم الكثير مما يمكن الإستفادة منه. لقد كانت الفرنكفونية خيارا ناجعا بالنسبة للتونسيين في مرحلة ما ولم تعد اليوم كذلك، بل باتت عائقا يكبلهم ويحول دونهم والتقدم، مع عوائق أخرى على غرار الثقافة التكفيرية والفهم الخاطئ للنص الديني وإضفاء القداسة على الإجتهادات الدينية البشرية وغيرها. ولا يوجد بلد فرنكفوني حقق نهضة علمية أو اقتصادية باستثناء فرنسا التي تتراجع اليوم، كما أن فرنسا ليست سخية مع التونسيين حتى نتمسك بثقافتها وحضارتها، فلا هي أنجزت في تونس من البنى التحتية ما أنجزت في الجزائر ولا هي ألقت بكل ثقلها في بلادنا الخضراء من خلال الإستثمارات الكبرى كما فعلت مع مدللتها المغرب. علينا بالحسم في هذا المجال لأن الأيادي المرتعشة لا تصنع الربيع من جهة ولأن الوقت يمر والأمم من حولنا تتقدم ومن لا يتقدم يتراجع في عالم لا يعترف بغير القوي..