&
اعجب احيانا كيف بوسعنا ان نعيش في بلد كالعراق تلعب به الحرب لعبتها السمجة القذرة وتنوشه السهام والحراب من هذا الطرف أو ذاك وتؤرجحه الاعراب والاغراب وتأخذه يمنة ويسرة ، تحكمه وتبطش به طوال مايقرب من ثلاثة عقود ونصف ، بلد امتهن صناعة الضجيج والصراخ والعويل والنحيب الدائم على الموتى والجرحى واعتاد اصوات الانفجارات واستأنس هدير المفخخات والعبوات الناسفة حتى صارت لباسه وجلده اللصيق به
تُرى هل تآلفنا نحن العراقيين ودخلنا مع تلك الانبعاثات الكريهة من الاصوات الناشزة في علاقة حميمة واعتادت اسماعنا الاصغاء لتلك الخزعبلات حتى صارت جزءا مكمّلا لنا مثل فلكلورنا الباكي الحزين اللاطم على الخدود الذي لانستطيع نزعه مهما بُلِي واتّسخ
يتّضح اننا طربنا لوقع طبول الحرب وهزجنا مع الشعارات المتشنجة وامتهنّا ان ندبك ونرقص فرحا كلما جاءنا موتى الحرب وهم مدثّرون بأكفانهم ونشيّعهم مثل مواكب اعراس وزفاف الى القبور ونسمع نسوتنا تهلل اصواتا تتمازج بين الفرح والنواح الحزين وكأنّ الميت يزفّ الى عروسه ويحسب في خانة الشهداء السعيدين وفق أهواء وامزجة أمراء الحروب ورعاة النزاعات ورجال الدين الذين شرعنوا الشهادة على مقاساتهم العقلية النفعية بمعيّة سياسيين موتورين طامعين سفلة لايهمهم ان يحترق اليانع واليابس ماداموا يحققون مايريدون&
يذكرني هذا الحال بما سمعته مرة من الموسيقار الكبير منصور الرحباني حينما سأله احد الصحفيين عن رأيه بمواطن ريفيّ بسيط ساذج في ضيعة ما ؛ كان يطرب لصوت هدير الانفجارات المتقطعة التي تنبعث من المحركات القريبة من بيته فصار يشعر بفقدان شيء ما لو سكتت تلك الانفجارات عند انطفاء محركاتها وكأن نقصا ما قد تخلل يومه اذ ان هذه الاصوات صارت تشكّل لازمةً لابد من وجودها في حيثيات حياته وقد تآلف معها واعتادها بحيث غدا يفتقدها لو انعدم ضجيجها وكم كنت مندهشا حين هزّ الموسيقار الرحباني رأسه موافقا وأضاف بأنه مازال يطرب لبابور الكاز حينما كان يسمعه وهو صغير في مطبخ البيت وينتبه الى هديره مستمتعا به ويسعد جدا بزخّات الرعد والمطر ووقعها على السطح& باعتبارها صدى الطفولة والفتوة وقد ترسّخت في اعماقه واعتاد عليها تآلفا وانسجاما حتى لازمته في كِبرِه
نفس الامر يحصل للجنود المقاتلين على خطوط التماس مع العدو في جبهات القتال حيث يتفاقم دوي المدافع والقنابل واصوات الرصاص حينما تختلط مع بعضها البعض وتكون شيئا معتادا مألوفا في اسماعهم وربما تكون اكثر طربا من تغريدات الطيور وخرير الماء وهفهفة النسائم العليلة وزقزقات العصافير عند الغروب حينما تأوي لاعشاشها& واجمل وقعا من موسيقى الطبيعة وغناء كائناتها
لم أنسَ البتة هلعي وصراخي واستهجاني مما فعله مجنّد صديق لي حينما شغّل الراديو الترانسستر اول صباح في ثكنة عسكرية ليسمع صوت السيدة فيروز ونحن في قــبْوٍ تحت الارض معا حينما كنّا جنودا في بدايات الحرب العراقية – الايرانية اول ثمانينات القرن الماضي وصحتُ في وجهه وأنا في فورة دمي كي يطفئ الجهاز والاّ حطمتُه بصخرة حملتُها بيدي وأصابني الهوس والغضب الشديدين من فعلتهِ التي اعتبرتها غريبة جدا ، اذ لامكان لصوت العذوبة والجمال ان يصدح في صباح يهدر بالمدافع والهاونات ؛ مكفهرّ بالحروب والدماء والرعب
هكذا نعيش& نحن الان في بلاد الويلات التي لاتنتهي ، دجّنتنا الحرب واعتدنا فواجعها وأزيز محركاتها وآلياتها طربنا لهدير الطائرات التي فاقت سرعته اصوات الشجى وبحّة الناي الآتية من انفاس الصدور ولم يعد يروقنا نغم العود التي تحرّكه الانامل الملأى بالاحاسيس ، مرضنا وأحببنا مواجع السقام وأنين المبتلين المحزونين ورغبنا عن صداح الحناجر ونسينا ان الموسيقى طبيب ذكي متمرس تطبب النفوس وتؤنس الاسماع وترطّب القلب المحترق بسعير الحب ، هكذا تلوثت نفوسنا وقذرت أمزجتنا وفسدت ذائقتنا ولم يعد بإمكاننا ان نصغي لكل ماهو مبهج مسرّ للأسماع بعد ان طغى التلوّث السمعي وشمل كل ارجاء بلادنا
سكتت موالاتنا وبُحّت اصوات الابوذيات الجنوبية وذبلت اغصان المقامات العراقية التي غذّت الاغاني العربية والشرقية وروّت الحانها واينعت اصواتها قدودا حلبية وطقطوقات مصرية وكلثوميات ساحرة وفيروزيات صباحية ومربعات بغدادية ..و..و
أهكذا يفعله سقام الحرب بنا اذ لم تعد موسيقانا بلسما شافيا وضمادا مخففا لانها ببساطة اكثر خفوتا من اصوات الرعب التي تنفثها فوهات المدافع والقنابل المدوية والقذائف القاتلة وصفّارات الإنذار المفزعة ؟&
لم يجانب الصواب بيتهوفن حينما كتب في احدى رسائله تلك العبارة الموجعة : " لو استطعت ان اشرح للطبيب مابي من ألمٍ وتوّجع وأبوح له ماعندي من هموم بالموسيقى لشفيت من كل الامراض العائمة في جسدي "& ترى كم يطغى الوجع المضني ويخرس الابداع ويصمّ أذاننا عن كل ماهو جاذب وساحر ويغلب الجمال ويوئده
&يتّضح اننا اصابنا البكم والخرس والصمم وجفّت ينابيع ارواحنا من بلل الموسيقى المنعشة وأنسنا دويّ المدافع وماتبعثه الحروب والنزاعات من زعيق ونهيق كريه يمحو كل جمال الانغام ورهافة الحسّ الموسيقي
حقا ان الانسان اكثر المخلوقات تكيّفا مع احلك الظروف مهما كانت قاسية او مريرة وعليه ان يطيقها ويخلق جوّا من الانسجام والألفة معها مهما كانت موبوءة بالقبح والبذاءة ورداءة الزمكان وكم من الشعراء والفنانين الكبار من جعل القمامة منظرا يشدّ الانتباه وقيعان الأسن بحيرات من السحر والجمال البهيّ& فالشمس المضيئة المتألقة تبقى ناصعة ونقية حتى لو أشرقت في الوحل ورمت بظلّها اللامع في أقذر الأماكن قبحا ووساخة
لذا كان لزاما علينا ان نترقب طلعة الشمس لتعمل على تطهيرنا اولا من ملوّثات الكراهية ومن ثمّ تغذية ارواحنا بما ينتجه العقل السليم من مناحٍ ابداعية وأصوات تؤنس الاسماع وتهفو اليها القلوب عسى ان نمحو الضجيج العائم بين ظهرانينا لنبدأ عصرا جديدا حافلا بالسلام والوئام والانسجام بين ابناء الوطن الواحد
لاتقولوا انني أهذي واحلم وأتطلع الى اوهام متخيلة وأمانٍ في خانة اللامعقول والفانتازيا غير ان فسحة الامل لاتحدّها حدود وكم من الاحلام تحوّلت الى حقيقة بفعل العقل الانسانيّ المبتكر المبدع& فدوام الحال من المحال ولكل بلاد كبوة والحاذق ذو الفطنة من يمرّن نفسه على كيفية القيام من كبوته ويتقن الدرس ويأخذ العظة والعبرة من سقطاته وهذا ماأحدسه في بلادي الناهضة حتما في المقبل القريب

[email protected]
&